وذلك يدل على قدرة كاملة. وثانيها: أنها تدل على العبرة من حيث إن الإنسان يعرف بها أن الدنيا لا تبقى، فنهاية كل متحرك سكون، وغاية كل متكون أن لا يكون، فيرفع قلبه عن حب الدنيا وتقوى رغبته في طلب الآخرة، كما قال: * (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب) * (يوسف: 111) وثالثها: أنه صلى الله عليه وسلم لما ذكر قصص الأولين من غير تحريف ولا تغيير مع أنه لم يتعلم ولم يتلمذ، دل ذلك على أنه بوحي من الله تعالى، كما قال في سورة الشعراء بعد أن ذكر القصص * (وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين) * (الشعراء: 192 - 194).
والوجه الثاني: أنهم كلما سمعوا حروف التهجي في أوائل السور ولم يفهموا منها شيئا ساء ظنهم بالقرآن. وقد أجاب الله تعالى عنه بقوله: * (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات) * (آل عمران: 7).
والوجه الثالث: أنهم رأوا أن القرآن يظهر شيئا فشيئا، فصار ذلك سببا للطعن الردئ فقالوا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة فأجاب الله تعالى عنه بقوله: * (كذلك لنثبت به فؤادك) * (الفرقان: 32) وقد شرحنا هذا الجواب في سورة الفرقان.
والوجه الرابع: أن القرآن مملوء من إثبات الحشر والنشر، والقوم كانوا قد ألفوا المحسوسات فاستبعدوا حصول الحياة بعد الموت، ولم يتقرر ذلك في قلوبهم، فظنوا أن محمدا عليه السلام إنما يذكر ذلك على سبيل الكذب، والله تعالى بين صحة القول بالمعاد بالدلائل القاهرة الكثيرة.
الوجه الخامس: أن القرآن مملوء من الأمر بالصلاة والزكاة وسائر العبادات، والقوم كانوا يقولون إله العالمين غني عنا وعن طاعتنا، وإنه تعالى أجل من أن يأمر بشيء لا فائدة فيه، فأجاب الله تعالى عنه بقوله: * (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا) * (المؤمنون: 115) وبقوله: * (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها) * (الإسراء: 7) وبالجملة فشبهات الكفار كثيرة، فهم لما رأوا القرآن مشتملا على أمور ما عرفوا حقيقتها ولم يطلعوا على وجه الحكمة فيها لا جرم كذبوا بالقرآن، والحاصل أن القوم ما كانوا يعرفون أسرار الإلهيات، وكانوا يجرون الأمور على الأحوال المألوفة من عالم المحسوسات وما كانوا يطلبون حكمها ولا وجوه تأويلاتها، فلا جرم وقعوا في التكذيب والجهل، فقوله: * (بل كذبوا لما لم يحيطوا بعلمه) * إشارة إلى عدم علمهم بهذه الأشياء، وقوله: * (ولما يأتهم تأويله) * إشارة إلى عدم جدهم واجتهادهم في طلب تلك الأسرار.
ثم قال: * (فانظر كيف كان عاقبة الظالمين) * والمراد أنهم طلبوا الدنيا وتركوا الآخرة، فلما ماتوا فاتتهم الدنيا والآخرة فبقوا في الخسار العظيم، ومن الناس من قال المراد منه عذاب الاستئصال وهو الذي نزل بالأمم الذين كذبوا الرسل من ضروب العذاب في الدنيا، قال أهل التحقيق قوله: