أن يقال: لا حاجة إلا الاضمار، لان قوله (دعوا الله) يصير مفسرا بقوته (لئن أنجتينا من هذه لنكونن من الشاكرين) فهم في الحقيقة ما قالوا إلا هذا القول.
واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم هذا التضرع الكامل بين أنهم بعد الخلاص من تلك البلية والمحنة أقدموا في الحال على البغي في الأرض بغير الحق. قال ابن عباس: يريد به الفساد والتكذيب والجراءة على الله تعالى، ومعنى البغي قصد الاستعلاء. بالظلم. قال الزجاج: البغي الترقي في الفساد قالا الأصمعي: يقال بغى الجرح يبغي بغيا إذا ترقى إلى الفساد، وبغت المرأة إذا فجرت. قال الواحدي:
أصل هذا اللفظ من الطلب.
فان قيل: فما معنى قوله (بغير الحق) والبغي لا يكون بحق؟
قلنا: البغي قد يكون بالحق. وهو استيلاء المسلمين على أرض الكفرة وهدم دورهم وإحراق زروعهم وقطع أشجارهم، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني قريظة، ثم إنه تعالى بين أن هذا البغي أمر باطل يجب على العاقل أن يحترز منه فقال (يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا) وفيه مسائل:
(المسألة الأولى) قرأ الأكثرون (متاع) برفع العين، وقرأ حفص عن عاصم (متاع) بنصب العين، أما الرفع ففيه وجهان: الأول: أن يكون قوله (بغيكم على أنفسكم) مبتدأ، وقوله (متاع أنفسكم) ومعنى الكلام أن بغى بعضكم على بعض منفعة الحياة الدنيا ولا بقاء لها. والثاني: أن قوله (بغيكم مبتدأ، وقوله (على أنفسكم) خبره، وقوله (متاع الحياة الدنيا) خبر مبتدأ محذوف، والتقدير:
هو متاع الحياة الدنيا. وأما القراءة بالنصب فوجهها أن نقول: إن قوله (بغيكم) مبتدأ، وقوله (على أنفسكم) خبره، وقوله (متاع الحياة الدنيا) في موضع المصدر المؤكد، والتقدير: تتمتعون متاع الحياة الدنيا.
(المسألة الثانية) البغي من منكرات المعاصي. قال عليه الصلاة والسلام أسرع الخير ثوابا صلة الرحم وأعجل الشر عقابا البغي واليمين الفاجرة وروى ثنتان يعجلهما الله في الدنيا البغي وعقوق الوالدين وعن ابن عباس رضي الله عنهما: لو بغى جبل على جبل لاندك الباغي، وكان المأمون يتمثل بهذين البيتين في أخيه:
يا صاحب البغي إن البغي مصرعة... فاربع فخير فعال المرء أعدله فلو بغى جبل يوما على جبل... لاندك منه أعاليه وأسفله