المسألة الأولى: قد ذكرنا في هذا الكتاب، وفي الكتب العقلية أن الدليل الدال على وجود الصانع تعالى، إما الامكان وإما الحدوث وكلاهما إما في الذوات وإما في الصفات، فيكون مجموع الطرق الدالة على وجود الصانع أربعة، وهي إمكان الذوات، وإمكان الصفات، وحدوث الذوات، وحدوث الصفات. وهذه الأربعة معتبرة تارة في العالم العلوي وهو عالم السماوات والكواكب، وتارة في العالم السفلي، والأغلب من الدلائل المذكورة في الكتب الإلهية التمسك بإمكان الصفات وحدوثها تارة في أحوال العالم العلوي، وتارة في أحوال العالم السفلي، والمذكور في هذا الموضع هو التمسك بإمكان الأجرام العلوية في مقاديرها وصفاتها، وتقريره من وجوه: الأول: أن أجرام الأفلاك لا شك أنها مركبة من الأجزاء التي لا تتجزى، ومتى كان الأمر كذلك كانت لا محالة محتاجة إلى الخالق والمقدر.
أما بيان المقام الأول: فهو أن أجرام الأفلاك لا شك أنها قابلة للقسمة الوهمية، وقد دللنا في الكتب العقلية على أن كل ما كان قابلا للقسمة الوهمية، فإنه يكون مركبا من الأجزاء والأبعاض. ودللنا على أن الذي تقوله الفلاسفة من أن الجسم قابل للقسمة، ولكنه يكون في نفسه شيئا واحدا كلام فاسد باطل. فثبت بما ذكرنا أن أجرام الأفلاك مركبة من الأجزاء التي لا تتجزى، وإذا ثبت هذا وجب افتقارها إلى خالق ومقدر، وذلك لأنها لما تركبت فقد وقع بعض تلك الأجزاء في داخل ذلك الجرم، وبعضها حصلت على سطحها، وتلك الأجزاء متساوية في الطبع والماهية والحقيقة، والفلاسفة أقروا لنا بصحة هذه المقدمة حيث قالوا إنها بسائط، ويمتنع كونها مركبة من أجزاء مختلفة الطبائع.
وإذا ثبت هذا فنقول: حصول بعضها في الداخل، وحصول بعضها في الخارج، أمر ممكن الحصول جائز الثبوت، يجوز أن ينقلب الظاهر باطنا، والباطن ظاهرا. وإذا كان الأمر كذلك وجب افتقار هذه الأجزاء حال تركيبها إلى مدبر وقاهر، يخصص بعضها بالداخل وبعضها بالخارج فدل هذا على أن الأفلاك مفتقرة في تركيبها وأشكالها وصفاتها إلى مدبر قدير عليم حكيم.
الوجه الثاني: في الاستدلال بصفات الأفلاك على وجود الإله القادر أن نقول: حركات هذه الأفلاك لها بداية، ومتى كان الأمر كذلك افتقرت هذه الأفلاك في حركاتها إلى محرك ومدبر قاهر.
أما المقام الأول: فالدليل على صحته أن الحركة عبارة عن التغير من حال إلى حال، وهذه الماهية تقتضي المسبوقية بالحالة المنتقل عنها، والأزل ينافي المسبوقية بالغير، فكان الجمع بين الحركة