أما صلاة الفجر فقال محمد: المستحب أن يدخل فيها بالتغليس، ويخرج منها بالإسفار، فإن أراد الاقتصار على أحد الوقتين فالإسفار أفضل، وقال الشافعي رضي الله عنه: التغليس أفضل، وهو مذهب أبي بكر وعمر وبه قال مالك وأحمد، واحتج الشافعي رضي الله عنه بعد الدلائل السالفة بوجوه. أحدها: ما أخرج في الصحيحين برواية عائشة رضي الله عنها أنها قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي الصبح فينصرف والنساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس " قال محيي السنة في كتاب " شرح السنة ": متلفعات بمروطهن أي متجللات بأكسيتهن، والتلفع بالثوب الاشتمال، والمروط: الأردية الواسعة، واحدها مرط، والغلس: ظلمة آخر الليل، فإن قيل: كان هذا في ابتداء الإسلام حين كان النساء يحضرن الجماعات، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالغلس كيلا يعرفن، وهكذا كان عمر رضي الله عنه يصلي بالغلس، ثم لما نهين عن الحضور في الجماعات ترك ذلك قلنا: الأصل المرجوع إليه في إثبات جميع الأحكام عدم النسخ، ولولا هذا الأصل لما جاز الاستدلال بشيء من الدلائل الشرعية. وثالثها: ما أخرج في الصحيحين عن قتادة عن أنس عن زيد بن ثابت قال تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قمنا إلى الصلاة، قال قلت: كم كان قدر ذلك، قال: قدر خمسين آية، وهذا يدل أيضا على التغليس. وثالثها: ما روي عن أبي مسعود الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غلس بالصبح، ثم أسفر مرة، ثم لم يعد إلى الإسفار حتى قبضة الله تعالى. ورابعها: أنه تعالى مدح المستغفرين بالأسحار فقال: * (والمستغفرين بالأسحار) * (آل عمران: 17) ومدح التاركين للنوم فقال: * (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا) * (السجدة: 16) وإذا ثبت هذا وجب أن يكون ترك النوم بأداء الفرائض أفضل لقوله عليه السلام حكاية عن الله: " لن يتقرب المتقربون إلي بمثل أداء ما افترضت عليهم " وإذا كان الأمر كذلك وجب أن يكون التغليس أفضل. وخامسها: أن النوم في ذلك الوقت أطيب، فيكون تركه أشق، فوجب أن يكون ثوابه أكثر، لقوله عليه السلام: " أفضل العبادات أحمزها " أي أشقها، واحتج أبو حنيفة بوجوه. أحدها: قوله عليه السلام: " أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر ". وثانيها: روى عبد الله بن مسعود أنه صلى الفجر بالمزدلفة فغلس، ثم قال ابن مسعود: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلوات إلا لميقاتها إلا صلاة الفجر، فإنه صلاها يومئذ لغير ميقاتها. وثالثها: عن ابن مسعود قال: ما رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حافظوا على شيء ما حافظوا على التنوير بالفجر. ورابعها: عن أبي بكر رضي الله عنه أنه صلى الفجر فقرأ آل عمران، فقالوا: كادت الشمس أن تطلع، فقال
(١٥٢)