ولما استوفى حظه العلمي من الثقافة الاسلامية العالية، كان هو قد صاغ لنفسه ذوقا عاليا، ساعدته على إنشائه ملكاته القوية، وسليقته المطبوعة على حسن الأداء، وتخير الألفاظ، وقوة البيان، وذرابة اللسان، وسعة الذهن، فكان بتوفيقه بين العلم والفن ممتازا في المدرسة، مضافا إلى ما كان له من الميزة الفطرية في ناحيتي الفكر والعقل.
على أنه لم يكتف من مدرسته بتلقي الدروس واكتناز المعارف فقط، بل استفاد من ملابسات الحيات العامة التي كانت تزدحم على أبواب المراجع من أساتذته، وانتفع من الأحداث المؤتلفة، والحوادث المختلفة التي كانت تولدها ظروف تلك الحياة، فكان يضع لما اختلف منها، ولما ائتلف حسابا، ويستخرج منه نفعا ويقدر له قيمة، وينظر إليه نظرة اعتبار، ليجمع بين العلم والعمل، وبين النظريات والتطبيق.
إذن فقد كانت مدرسته - بالقياس إليه - مدرستين: يعاني في إحداهما المسائل العلمية، ويعاني في الثانية المسائل الاجتماعية، ثم تتزاوج في نفسه آثار هذه وآثار تلك مصطلحة على انتاج بطولته.
في عاملة وحين استعلن نضجه، ولمع فضله في دورات البحث ومجالس المذاكرة والتحصيل، عاد في الثانية والثلاثين من عمره - إلى جبل عامل - جنوب لبنان، موقورا مشهورا مملوء الحقائب، ريان النفس، وريق العود، ندي اللسان، مشبوب الفكر، وكان يوم وصوله يوما مشهودا، قذفت فيه عاملة بأبنائها لتستهل مقدمه مشرقا في ذراها