ولنرجع إلى ما كنا بصدده فنقول قد امتاز الانسان بهذه الصورة النباتية والأعوان الذين خلقهم الله لافاده التغذية والتوليد من الأجساد المعدنية فصار أكمل وجودا من الحجر والبلور والحديد والنحاس والذهب والفضة وغيرها الا ان صوره النبات مع هذا الكمال ناقص فإنه ربما لم يصل اليه غذاء ينساق اليه ويماس أصله فجف ويبس إذ لم يمكنه طلب الغذاء والمشي اليه من الموضع الذي فيه إلى موضع آخر فان الطلب انما يكون بشيئين معرفه وقدره وهما مفقودتان عنه فلو وقف وجود الانسان في هذه الدرجة لكان ناقصا عاجزا في خلقته وفعله فانظر كيف رفعه الله عن هذا المنزل بصوره أخرى امتاز بها عن النباتات وارتفع وجوده عن وجود الهاويات الساكنات وقرب بخطوه أخرى إلى رب الأرباب ومعدن الأنوار عن قعر عالم الظلمات بان خلق له آله الاحساس وآله حركة الاختيارية في طلب الغذاء وهما المشار اليهما في الكتاب فجعلناه سميعا بصيرا انا هديناه السبيل اما شاكرا واما كفورا.
ثم انظر إلى ترتيب حكمه الله في خلق الحواس الخمس فأولها اللمس وهذا انقص درجات الحس فإنه الشعور بما يلامس الحيوان ويلاصقه لا بما يبعد منه فان الشعور بما يبعد منه يحتاج إلى حاسه أقوى وأتم وهذا يعم الحيوانات كلها ولدناءة بعض الحيوانات القريب المنزلة من النبات كالدود التي في الطين يقتصر على هذا ولا يقدر على طلب الغذاء فلو لم يخلق فيك الا هذا الحس لكنت ناقصا كالدود فافتقرت إلى حس آخر لادراك البعيد فخلق لك الشم الا انك لا تدرى به ان الرائحة من اي ناحية جاءت لتطلب بها ذي الرائحة فتطوف كثيرا حتى تظفر به فانعم الله عليك بحاسة البصر لكن لا تدرك بها ما يحتجب بجدار أو حائل آخر وأيضا لا تدرك بها الا ما هو الموجود الحاضر واما الغائب فلا يمكنك معرفته الا بكلام واعلام يدرك بحس السمع فاشتدت حاجتك اليه فانظر كيف أنعم عليك وميزك بفهم الكلام عن سائر الحيوان وكل ذلك ما يغنيك لو لم يكن لك حس الذوق إذ يصل إليك الغذاء فلا تدرك انه موافق أو مخالف فتأكله فتهلك كالشجرة ربما يصب في أصلها ما هو سبب جفافها ولا ذوق لها فتجذبه فتجف ثم جميع ذلك لا يكفي في الاستكمال ولا يتم به الحياة الانسانية لو لم يكن لك ادراك باطني يتأدى