الامر، لزم بيته ولم يتعرف إلى أحد من إخوانه.) قال: (كيف يتفقه هذا في دينه؟) (1) أقول: من المسائل المطروحة في علم الأخلاق، مسألة العزلة عن الناس. فاعلم أن أصل العزلة الصحيحة مقبول من الشرع المبين. وكفى في إثبات ذلك ما ذكرناه من الآيات والروايات؟ إذ المراد من الرهبانية في آية الحديد هي العزلة الصحيحة من الناس التي تؤدي إلى تحصيل مرضاة الله تعالى، (2) كما أن الآية الثانية من سورة النجم أيضا صريحة في الدلالة على الاعراض عن الغافلين الذين لا يريدون إلا الحياة الدنيا.
ولكن ليس المراد من العزلة الممدوحة عند الشرع، هو الاعراض والاجتناب عن جميع الناس حتى المؤمنين والمتقين والعلماء الصالحين منهم. كيف؟ وقد أمرنا الله تعالى في نفس هذا الحديث بالتعاطف والتواصل في الله مع المؤمنين. والأحاديث الواردة في الحث على زيارة العباد المتقين والعلماء الصالحين كثيرة، فإذا ترتب على المخالطة والمعاشرة خير وفائدة كالتفقه في الدين وتذاكر أمر الأئمة عليهم السلام وإحياء علومهم والتعاطف والتواصل في الله، فلا بأس بها، بل هي مطلوبة ممدوحة.
وأما الامر بالوحشة عن الناس في الحديث الماضي عن أبي عبد الله عليه السلام، فظاهر، إذ المراد بالناس في كلامه هو عامتهم، الذين وصفهم الله تعالى في مواضع من كتابه العزيز بالغفلة والجهالة والبعد عن طريق العبودية، كما أن ما يعد من أول المعاصي هي مخالطة المخلوقين بأهوائهم، لا مطلق المخالطة.
فتحصل من مجموع الآيات والروايات، أن الخلوة عن الناس (وهم عامة الخلق الذين هم في غفلة غالبا) مطلوبة، لأن المجالسة والمعاشرة معهم في الزائد عن الأمور الضرورية توجب الغفلة عن ذكر الله وتمنع عن الاشتغال بكسب الفضائل والآخرة غالبا، وهي غير مطلوبة جدا.