رب! كيف أزهد، في الدنيا؟)، كان الجواب لا محالة بيانا لطريق يهدي السالك إلى هذه المرتبة من الزهد، وليس في مقام بيان أصل الزهد، وقد عرفت هناك (1) أنه ليس المراد بالزهد في الدنيا ترك التمتع عن النعم الدنيوية مطلقا، بل المراد به هو التجافي عن الدنيا وعدم الاشتغال بها عن الله تعالى في عين التمتع بها. فلأخذ الكفاف من الطعام والشراب واللباس وعدم الادخار لغد، الذي يعد مرحلة ثانية من الزهد، دخل في الوصول إلى المرحلة الثالثة من الزهد، أعني (الزهد في الدنيا.) ثم إن ذيل جملة الحديث، أعني قوله عز وجل: (دم علي ذكري.) شاهد على أن الامر بأخذ الكفاف من الدنيا في الحديث، لأجل الدوام على ذكر الله تعالى، فكل استمتاع وتلذذ لا يمنع من دوام ذكره تعالى، فهو أمر مباح سائغ، سواء في ذلك جمع الأموال واقتناؤها، أو لبس الملابس الفاخرة وان كان أزيد من المتعارف ما لم يؤد إلى الاسراف والتبذير والادخار المنهي عنها، إذ لا يعقل الدوام على ذكر الله تعالى بفعل ما لا يكون مطلوبا شرعا.
وفيما ذكرناه من الآيات والروايات في ذيل هذه الجملة من الحديث، شواهد كثيرة على بياننا القاصر، كما يدل عليه ما سيأتي من البيان إن شاء الله في ذيل كلامه عز وجل: (كيف أدوم على ذكرك؟)