ولما تلاقت الوفود بعد ذلك في المدينة مجتمعة على اعمال عثمان وعماله كان الأشتر على اهل الكوفة مطالبا بما تطالب به الوفود كلها، وعند ما تطورت الأمور إلى الحالة التي لم يكن أحد يظن انها ستتطور إليها وحوصر عثمان وهدد بالقتل، لم يدخل الأشتر في هذا. فقد قال الطبري وهو يصف حصار عثمان: فاعتزل الأشتر فاعتزل حكيم جبلة زعيم البصريين، وكان ابن عديس زعيم المصريين وأصحابه هم الذين يحصرون عثمان وكانوا خمسمائة.
ولما قتل عثمان كان الأشتر هو الذي قاد الجماهير إلى بيعة علي بن أبي طالب ع.
وقال الأستاذ احمد الجندي:
من شخصيات التاريخ الاسلامي النادرة، ومن ابطال الحرب البارزين في أيام العرب، جمع البطولة إلى النجدة، والشجاعة إلى الدين، والفصاحة والبلاغة إلى الكرم والأدب، ورغم ما مر بك من صفات الرجل فان التاريخ لم ينصفه، ولم يحص مآثره وأمجاده، لان ما به من صفات لا يمكن حصرها ولا يتأتى تعدادها. انه يمثل العربي الصحيح، العربي الذي لا يقرب العيوب ولا يداني الدنس، العربي الذي يرخص الروح في سبيل الذود عن الكرامة والدفاع عن الحياض، هذه الكلمات المعسولة التي مرت بك ليست ألفاظا تقال في معرض الحديث عن مالك الأشتر، وانما هي كلمات لها معانيها ومدلولاتها وآثارها في شخص بطل طبق على نفسه القواعد الموضوعة والحدود المرسومة حتى بلغ مرتبة المثل الأعلى للرجل الكامل.
ولد هذا البطل المشهور قبل الاسلام بقليل وقد عاصر النبي ص ولكنه لم يره ولم يسمع حديثه، غير أن مالكا ذكر عند النبي فقال فيه:
انه المؤمن حقا. وهذه شهادة تعدل شهادة الدنيا بأسرها لأنها صدرت عن أعظم انسان في الدنيا وهي دليل على أن مالكا قد كان شابا في عهد النبي له وزن وله رأي في قومه وانه دخل في الاسلام كما دخل فيه غيره من عظماء هذا العهد المبارك، بل لقد عد بين المجاهدين الذين أبلوا البلاء الحسن في حروب الردة وموقفه معروف من أبي مسيكة الأيادي وهو زعيم من زعماء المرتدين وحديث مالك اليه حديث المؤنب المعتز باسلامه وعروبته وشجاعته حتى لقد دعاه للمبارزة غير هياب ولا وجل مما يدل على أنه قد كان يومذاك شابا في ريعان الشباب. فإذا أضفنا إلى هذا ان مالكا الأشتر قد صرع عبد الله بن الزبير في وقعة الجمل وان عمره كان إذ ذاك على ما يروي المؤرخون، ثمانين عاما فتكون ولادته، إذن، قبل بعثة النبي بعقدين أو ما يزيد على ذلك قليلا. ولكنا لا نخلو من الشك في أن سنه قد بلغت إلى هذا الحد في معركة الجمل لأنه عاش بعد ذلك أيام حرب صفين كلها وانه في نهاية هذه الحرب، وبعد التحكيم، عين واليا على مصر من قبل الإمام علي ع ولسنا نرى ان يعمد الامام إلى تسليم قطر من أهم الأقطار الاسلامية لرجل شيخ هم، بل نرجح انه كان إذ ذاك في طور الكهولة وانه تجاوز الستين بقليل.
اما اسمه المفصل فهو: مالك بن الحارث بن عبد يغوث بن مسلمة بن ربيعة... إلى أن ينتهي بالنخع ثم يصل إلى مذحج جده الأعلى والذي تسمت به قبيلة من أشهر القبائل اليمنية العربية وأشدها قوة ومنعة. ولقد شهد أول ما عرف خطبة عمر في الجابية كما شهد وقعة اليرموك وشترت عينه فيها، وقيل إنها شترت استرخى جفنها في حروب الردة مع أبي مسيكة الأيادي. وسكن أخيرا في الكوفة وترك فيها نسلا.
لهذا البطل شخصيتان: أولاهما شخصيته قبل الاسلام وأثناءه وفي زمن الخليفتين أبي بكر وعمر، وكان خلالها غير بارز الصورة ولا ظاهر الملامح، وكان معدودا بين الفرسان النابهين، ولكن التاريخ لم يهتم بشأنه في هذه الفترة إذ كان منشغلا بالجهاد.
وشخصيته الثانية تبدأ بالثورة على عثمان حتى نهاية حياته وفيها انضم إلى معسكر علي بن أبي طالب وظل وإياه حتى قتل مسموما على طريق مصر على ما رواه المؤرخون.
كان رفيقا لعمار بن ياسر الصحابي الجليل وقد تألم لمقتله كثيرا وثارت ثورته يومذاك على جند معاوية فأبلى فيهم وأذاقهم الويل في كراته الشديدة عليهم انتقاما لرفيقه وثأرا لصديقه.
كان الأشتر صاحب دين، وكان معدودا في التابعين وكان على جانب كبير من التقشف والزهادة ودليل ذلك اعجابه الشديد بأبي ذر الغفاري، وكان مالك أحد الذين زاروا الصحابي الجليل رغم غضب الخليفة عليه، حتى لقد مات أبو ذر بين يديه وتولى مالك دفنه وابنه تأبينا ينم على الالم لما لقيه من عنت وغبن، كما ينم على الاستياء والحقد على أولئك الذين آذوا صاحب الرسول الأعظم فلم يعرفوا له قدره ومكانته، ولقد وضع الشيخ أبا ذر في حفرته الأخيرة ثم جرد سيفه فمسح به القبر ثم تكلم عن صاحبه فقال: ان أبا ذر رأى منكرا فغيره بلسانه وقلبه حتى جفي ونفي وحرم واحتقر ثم مات وحيدا غريبا، ثم تثور حفيظة مالك فيدعوا على المعتدين بقوله اللهم فاقصم من حرمه ونفاه.
ولكن الغريب في امر مالك انه كان يثور امام الناس جميعا الا الامام ع فقد كان يحبه حبا غير من طبيعته الثائرة وهذب من طبعه العرم ورقق من نفسه المزمجرة المحنفة، فكان إذا سمع الأمر من علي تلقاه كامر عسكري لا تجوز مناقشته ولا تحق مداورته، وهكذا تراجع مالك يوم صفين نزولا عند رغبة الامام، وهكذا قبل أن يكون واليا في منطقة الجزيرة، وهي منطقة تافهة، الا انها واقعة على حدود الشام. وهكذا أيضا قبل أن يكون واليا على مصر بدلا من محمد بن أبي بكر، حتى لقي حتفه في الطريق على أغلب الروايات.
وانتهت بموت مالك حياة حافلة بالدين والايمان والشجاعة والنجدة فعد بذلك من الابطال الميامين في تاريخ الفترة الأخيرة من خلافة الراشدين.
ولقد سر معاوية بمقتله، فقال: كانت لعلي يمينان قطعت إحداهما بصفين يقصد عمار بن ياسر وقطعت الأخرى بمصر ويقصد مالكا.
أما الإمام علي المحب المفجوع بصديقه الأمين فقد قال فيه: كان لي مالك كما كنت لرسول الله.