عمر بن عبد العزيز، على قديم ما بين البيتين من خلاف عميق وعداء وصراع في السياسة والنحلة. قال فيه:
يا ابن عبد العزيز، لو بكت العين * فتى من أمية لبكيتك غير اني أقول: انك قد طبت، * وإن لم يطب ولم يزل بيتك ولو اني رأيت قبرك لاستحييت * من أن أرى وما حييتك وقليل ان لو بذلت ماء البدن * حزنا على الذرى وسقيتك وعلى بضعة أوتار من نفس هذه القيثارة الحزينة يعزف الرضي ألحانه في فنون شعره الأخرى في الحكمة والزهد والشكوى من الزمان وضياع الشباب ونزول الشيب، حتى غزله ونسبه يفيضان بالأنين والتوجع والتألم.
وشعره في الحكمة والزهد يكاد يعتمد اعتمادا خالصا على ثقافته العربية والآثار الاسلامية في معانيه وأفكاره، وان خالطه شئ غير عربي فمما كان شائعا في عصره وقبل عصره من اثر الثقافات الأجنبية، وفيما عدا ذلك فهو مستمد من القرآن الكريم والحديث الشريف وأقوال الصحابة والزاهدين، ومن تجاربه الخاصة في حياته العربية الخالصة ومذهبه العربي في هذه الحياة.
غزل الرضي وغزل الشريف الرضي ونسيبه عربيان خالصان، يستوحيهما من العربيات الخالصات، ومن البيئات العربية، على الرغم من كثرة الإماء والجواري غير العربيات وذهاب الشعراء في التشبب بهن كل مذهب في عبث ومجون. والرضي لم يزل زلة واحدة ولم ينحرف به الطريق عن العفة والشرف والخلق الرفيع في هذا الباب، وهو إذا تغزل فإنما يتغزل في العربيات من مثيلات أميمة ولمياء، وهن من بيئات عربية في نجد أو في العراق أو في الحجاز، وغاية عشقه وغزله أن يقول:
عفافي من دون التقية زاجر * وصونك من دون الرقيب رقيب عشقت وما لي، يعلم الله، حاجة * سوى نظري، والعاشقون ضروب وما لي يا لمياء بالشعر طائل * سوى ان أشعاري عليك نسيب ومذهبه في اختصاصه العربيات بالغزل واضح حين يدلنا على ذلك في بعض شعره إذ يفرق بين نجد العربية وبابل الفارسية، فيقول في معرض النسيب:
لواعج الشوق تخطيهم وتصميني * واللوم في الحب ينهاهم ويغريني هيهات بابل من نجد، لقد بعدت * على المطي مرامي ذلك البين والرضى إذا تعرض لوصف الفتاة لا يذهب، بعفته، إلى أبعد من نضرة الوجه ونقاء الخد وصفاء البشرة وامتلاء الساعد والساق، فإذا كان بينه وبينها لقاء فهما على هذا النحو:
بتنا ضجيعين في ثوب الظلام كما * لف الغصينين مر الريح بالأصل طورا عناقا كان القلب من كثب * يشكو إلى القلب ما فيه من الغلل وتارة رشفات لا انقضاء لها * شرب النزيف طوى علا على نهل وكم سرقنا على الأيام من قبل * خوف الرقيب كشرب الطائر الوجل غير أن الرضي كثيرا ما يؤكد ان هذه اللقاءات، على ما يبدو في ظاهرها من إرابة، بعيدة عن الشبه، وليس فيها غير عفيف القول وعفيف الفعل، مما لا يمس الشرف بخدش، ولا يؤثر في حسن الخلق بأثر:
وظبية من ظباء الإنس عاطلة * تستوقف العين بين الخمص والهضم بتنا ضجيعين في ثوبي هوى وتقى * يلفنا الشوق من فرع إلى قدم وبيننا عفة بايعتها بيدي * على الوفاء بها والرعي للذمم فقمت انفض بردا ما تعلقه * غير العفاف وراء الغيب والكرم ثم انثنينا وقد رابت ظواهرنا * وفي بواطننا بعد عن التهم فهذه عفة عربية وتقوى عربية، ووفاء عربي، وذمة عربية لفتاته العربية ان يرعاها ويتمسك بها ولا يفرط فيها. وفيما عدا ذلك فغزل الشريف الرضي يفيض بآنات الألم، الم الفراق، والشوق، والحنين، والذكرى.
شكوى الزمان والى جانب ذلك كله نجد الرضي كثير الشكوى من الزمان ومن نوازله وخطوبه وغدره، وأكثر من ذلك شكواه من المشيب وتفجعه على الشباب. إذ فاجأه الشيب وهو لم يزايل عتبات الصبا بكثير، ففي شعره ما يدلنا على أن الشيب داهمه وهو في سن العشرين أو بعد ذلك بقليل:
عجلت يا شيب على مفرقي * وأي عذر لك ان تعجلا فكيف أقدمت على عارض * ما استغرق الشعر ولا استكملا كنت أرى العشرين لي جنة * من طارقات الشيب ان أقبلا فالآن سيان ابن أم الصبا * ومن تسدى العمر الأطولا ولذلك نجده كثير الشكوى من الزمان ومما أنزله به من شيب باعد بينه وبين الشباب وقارب بينه وبين الموت وأغمض عنه عيون الحسان:
لو دام لي ود الأوانس لم إبل * بطلوع شيب وابيضاض غدائر واها على عهد الشباب وطيبه * والغض من ورق الشباب الناضر وأرى المنايا، ان رأت بك شيبة * جعلتك مرمى نبلها المتواتر لو يفتدى ذاك السواد فديته * بواد عيني بل سواد ضمائري ان أصفحت عنه الخدود فطالما * عطفت له بلواحظ ونواظر أما في الوصف فقد كان مجليا مبرزا فلم تكن شاعريته معبرة تعبيرا قويا عن مكنون نفسه ودخيلة عاطفته فحسب، وانما كانت معبرة أيضا عن انعكاسا الصور الخارجية عليها مصورة لها تصويرا فنيا يدل على براعة المصور وروعة فنه.
على أن الأمر الذي يثير التأمل حقا في شعره انما هو موسيقاه، والذي يصيخ السمع أثناء قراءة شعر الرضي يجد انه كان يختار الايقاع الموسيقي المناسب ربما في غير وعي منه للفن الذي يقول فيه معانيه ويصوغ فيه أفكاره وخلجات نفسه، فالتوافق الموسيقي بين الأوزان والمعاني سمة واضحة في قصائد الرضي بحيث يثير ذلك انتباهك وتأملك ويلفتك لفتا شديدا.
عوامل صرفت الناس عن شعر الرضي وبعد هذه الوقفة غير المستانية مع الشريف الرضي وشاعريته، أ ليس من الانصاف ان ندل على أنه من الواجب ان نقف معه وقفة طويلة، تنصفه وتنصف شاعريته التي اشتغل عنها القدامى بالمتنبي وشعر المتنبي،