عظيم في كتابي الأخبار في تمحله للاحتمالات البعيدة والتوجيهات الغير السديدة ويظهر ان صاحب اللؤلؤة أمضاه على هذا الرأي في حق الشيخ.
والحق ان الشيخ أول باحث نقد الأحاديث وحاول الجمع بين مختلفاتها ومتعارضاتها لتلك الغاية الكلامية التي أشرنا إليها فلذلك بذل جهدا عظيما في هذه الناحية لم يسبق إليها سابق وبرع فيها براعة قد لا تتأتى لمثله وهو مجتهد بحق لم نعرف له نظيرا ولا يمكن لإنسان مجتهد باحث ان يسلم من غفلة أو خطاة ولا يمكن لمجتهد آخر ان يقره على كل ما رآه الأول مع طبيعة الاختلاف في البشر قابلية وذكاء وفطنة وتمكنا من البحث. وليس ما وقع فيه من بعض الأخطاء شيئا يذكر في جنب ما في كتابه من دقائق نفيسة وآراء ناضجة وترجيحات مستقيمة ومحاسن لا تقدر بقيمة. اما ان يقال عن الشيخ انه وقع له خبط عظيم فلذلك تجن وظلم عظيم ولكنها تلك شنشنة نعرفها من اخزم فان مثل هذا القائل يريد من الناظر في الأحاديث الا يفتح فاه بكلمة يشم منها رائحة الرأي في الحديث أو ترجيح بعضها على بعضها أو تأويله بل يبقى الناظر مطموس الفهم أعمى الرأي لا يفكر ولا يرجح. فكل ترجيح وتأويل وكل رأي ونظر هو عنده خبط عظيم. ولذا ان هذا القائل بالذات استحسن كتاب النهاية للشيخ إذ اقتصر فيه على مضمون الأخبار فقال عنه: في كتاب النهاية سلك مسلك الاخباري الصرف ثم قال وهذه هي الطريقة المحمودة والغاية المقصودة. ولكن الشيخ حينما ذكر مضمون بعض الأخبار قد ألغى ما يعارضها ويخالفها لترجيح ما ذكره على غيره لوجه من الوجوه التي يذكرها في التهذيب والاستبصار إذ لم يصرح بتلك الوجوه فلا بد انه عمل رأيه وتأويله، والا فذكر جميع الاخبار متفقاتها ومتعارضاتها. و رابع الملاحظات: ما قاله صاحب اللؤلؤة بعد أن ذكر كلام ذلك القائل بعض مشايخه المعاصرين فإنه بعد أن اثنى عليه قال: وقد غفل عن شئ آخر هو أشد مما ذكره لمن تأمل بحقيقة النظر وهو ما وقع للشيخ المذكور سيما في التهذيب من السهو والغفلة والتحريف والنقصان في متون الأخبار وأسانيدها وقلما يخلو خبر من علة من ذلك.
واني شخصيا قد تثبت كثيرا من أحاديث التهذيب وطابقتها مع متون أحاديث الكافي فعثرت على جملة من الاختلاف في المتون بكلمة أو كلمتين وعلى الأكثر لا تخل بالمعنى والمقصود والذي يبدو للمتتبع ان الشيخ الكليني كان أضبط في نقل متن الحديث وهو أسبق منه فعند تعارض النصين مع اتحاد الرواية مسندا حيث يبدو اتحادهما متنا يكون الترجيح لا شك لمتن الكافي عند الاطمئنان من صحة النسخة.
وتلك ميزة للكافي على التهذيب بل الاستبصار لا يمكن لباحث ان ينكرها. وأبرز مثال لهذا الأمر رواية ثلاثة أشبار ونصف فقد ذكر في الكافي بعدين وكذا في الاستبصار ولكن في التهذيب أضاف بعدا ثالثا مما يجلب الانتباه إلى أنه زيادة في نسخة التهذيب لأن السند واحد في الجميع.
وقال الشيخ آغا بزرگ: إن في مؤلفات شيخ الطائفة ميزة خاصة لا توجد فيما عداها من مؤلفات السلف، وذلك لأنها المنبع الأول والمصدر الوحيد لمعظم مؤلفي القرون الوسطى حيث استقوا منها مادتهم وكونوا كتبهم، ولأنها حوت خلاصة الكتب المذهبية القديمة، وأصول الأصحاب فقد مر عليك عند ذكر هجرة الشيخ إلى النجف الأشرف ان مكتبة سابور في الكرخ كانت تحتضن الكتب القديمة الصحيحة التي هي بخطوط مؤلفيها، وقد صارت كافة تلك الكتب طعمة للنار كما ذكرناه، ولم نفقد بذلك والحمد لله سوى أعيانها الشخصية وهيآتها التركيبية الموجودة في الخارج، وأما محتوياتها وموادها الأصلية فهي باقية على حالها دون زيادة حرف ولا نقيصة حرف، لوجودها في المجاميع القديمة التي جمعت فيها مواد تلك الأصول قبل تاريخ إحراق المكتبة بسنين كثيرة، حيث ألف جمع من أعاظم العلماء كتبا متنوعة، واستخرجوا جميع ما في كتبهم من تلك الأصول وغيرها مما كان في المكتبات الأخرى، وتلك الكتب التي ألفت عن تلك الأصول موجودة بعينها حتى هذا اليوم، وأكثر أولئك استفادة من تلك المكتبة وغيرها شيخ الطائفة الطوسي لأنها كانت تحت يده وفي تصرفه، وهو زعيم الشيعة ومقدمهم يومذاك فلم يدع كتابا فيها الا وعمد إلى مراجعته واستخراج ما يخص مواضيعه منه.
وهناك مكتبة أخرى كانت في متناول يده، وهي مكتبة أستاذه السيد المرتضى الذي صحبه ثمان وعشرين سنة، وكانت تشتمل على ثمانين ألف كتاب سوى ما أهدي منها إلى الرؤساء كما صرح به كل من ترجم له، وذلك أحد وجوه تلقيبه بالثمانيني.
نعم كان شيخ الطائفة متمكنا من هاتين الخزانتين العظيمتين وكان الله ألهمه الأخذ بخطه منهما قبل فوات الفرصة، فقد اغتنمها، وغربل كوم الكتب فاخذ منها حاجته وظفر فيها بضالته المنشودة، وألف كتابيه الجليلين التهذيب والاستبصار اللذين هما من الكتب الأربعة، والمجاميع الحديثية التي عليها مدار استنباط الأحكام الشرعية عند الفقهاء الاثني عشرية منذ عصر مؤلفه حتى اليوم، وألف أيضا غيرهما من مهام الأسفار قبل أن يحدث شئ مما ذكرنا، وكذا غيره من الحجج فقد اجهدوا نفوسهم وتفننوا في حفظ تراث آل محمد ع، فكان لهم بحمد الله ما أرادوا.
وهكذا استقى شيخ الطائفة مادة مؤلفاته من تصانيف القدماء، وكتب في كافة العلوم من الفقه وأصوله، والكلام والتفسير، والحديث والرجال، والأدعية والعبادات، وغيرها، وكانت ولم تزل مؤلفاته في كل علم من العلوم ماخذ علوم الدين بأنوارها يستضيئون ومنها يقتبسون وعليها يعتمدون.
على أن جمعا من علماء الشيعة القدماء عملوا ما عمله، فان الشيخين الكليني والصدوق ألفا الكافي ومن لا يحضره الفقيه اللذين هما من الكتب الأربعة أيضا، وكذا غيرهما من الأقطاب، وانا لا ننكر فضلهم بل نشكرهم على حسن صنيعهم ونقدر مجهودهم ونسأل الله لهم الأجر والثواب الجزيل، إلا أنه لا بد لنا من الاعتراف بان شيخ الطائفة بمفرده قام بما لا تقوم به الجماعة، ونهض بأعباء ثقيلة لم يكن من السهل على غيره النهوض بها لولا العناية الربانية التي شدت عضده، فان الغير ممن أجهد نفسه الكريمة فكتب وألف قد خص موضوعا واحدا كالفقه أو الحديث أو الدعاء