أحيانا (1) يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي، فيفصم عني وقد وعيت
(١) [أحيانا]: جمع حين، يطلق على كثير الوقت وقليله، والمراد به هنا مجرد الوقت، فكأنه قال: أوقاتا يأتيني، وانتصب على الظرفية، وعامله (يأتيني) مؤخر عنه. ولابن حجر من وجه آخر عن هشام في بدء الخلق قال: كل ذلك يأتي الملك، أي كل ذلك حالتان فذكرهما، وروى ابن سعد من طريق أبي سلمة الماجشون، أنه بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (كان الوحي يأتيني على نحوين: يأتيني به جبريل فيلقيه علي كما يلقى الرجل على الرجل، فذاك ينفلت مني. ويأتيني في بيتي مثل صوت الجرس حتى يخالط قلبي، فذاك الذي لا ينفلت مني) وهذا مرسل مع ثقة رجاله، فإن صح فهو محمول على ما كان قبل نزول قوله تعالى: (لا تحرك به لسانك) [القيامة: ١٦]، فإن الملك قد تمثل رجلا في صور كثيرة، ولم ينفلت منه ما أتاه به، كما في قصة مجيئه في صورة دحية، وفي صورة أعرابي، وغير ذلك، وكلها في الصحيح.
وأورد على ما اقتضاه الحديث - وهو أن الوحي منحصر في الحالتين - حالات أخرى: إما من صفة الوحي كمجيئه كدوي النحل، والنفث في الروع، والإلهام، والرؤيا الصالحة، والتكلم ليلة الاسراء بلا واسطة. وإما من صفة حامل الوحي كمجيئه في صورة التي خلق عليها له ستمائة جناح، ورؤيته على كرسي بين السماء والأرض وقد سد الأفق. والجواب: منع الحصر في الحالتين المقدم ذكرهما وحملهما على الغالب، أو حمل ما يغايرهما على أنه وقع بعد السؤال، أو لم يتعرض لصفتي الملك المذكورتين لندورهما، فقد ثبت عن عائشة أنه لم يره كذلك إلا مرتين، أو لم يأته في تلك الحالة بوحي، أو أتاه به، فكان على مثل صلصلة الجرس، فإنه بين بها صفة الوحي، لا صفة حامله.
وأما فنون الوحي، فدوي النحل لا يعارض صلصلة الجرس، لأن سماع الدوي بالنسبة إلى الحاضرين كما في حديث عمر - يسمع عنده كدوي النحل، والصلصلة بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فشبهه عمر بدوي النحل بالنسبة إلى السامعين، وشبهه هو صلى الله عليه وسلم بصلصلة الجرس بالنسبة إلى مقامه.
وأما الرؤيا الصالحة: فقال ابن بطال: لا ترد، لأن السؤال وقع عما ينفرد به عن الناس، لأن الرؤيا قد يشركه فيها غيره. والرؤيا الصادقة وإن كانت جزءا من النبوة، فهي باعتبار صدقها لا غير، وإلا لساغ لصاحبها أن يسمى نبيا وليس كذلك، ويحتمل أن يكون السؤال قد وقع عما في اليقظة، أو يكون حال المنام لا يخفي على السائل، فاقتصر على ما يخفى عليه، أو كان ظهور ذلك له صلى الله عليه وسلم في المنام أيضا على الوجهين المذكورين لا غير. وقد ذكر الحليمي أن الوحي كان يأتيه على ستة وأربعين نوعا - فذكرها - وغالبها من صفات حامل الوحي، ومجموعها يدخل فيما ذكر. وحديث (إن روح القدس نفث في روعي)، أخرجه ابن أبي الدنيا في القناعة، وصححه الحاكم من طريق ابن مسعود.
قوله: [مثل صلصلة الجرس]، في رواية مسلم: (في مثل صلصلة الجرس، والصلصلة بمهملتين مفتوحتين بينهما لام ساكنة: في الأصل صوت وقوع الحديد بعضه على بعض، ثم أطلق على كل صوت له طنين، وقيل: هو صوت متدارك في أول وهلة، والجرس: الجلجل الذي يعلق في رؤوس الدواب، واشتقاقه من الجرس بإسكان الراء وهو الحس.
وقال الكرماني: الجرس: ناقوس صغير أو سطل في داخله يعلق منكوسا على البعير، فإذا تحرك تحركت النحاسة فأصابت السطل فحصبت الصلصلة. فإن قيل: المحمود لا يشبه بالمذموم، إذ حقيقة التشبيه إلحاق ناقص بكامل، والمشبه الوحي وهو محمود، والمشبه به صوت الجرس وهو مذموم لصحة النهي عنه، والتنفير ن مرافقة ما هو معلق فيه، والإعلام بأنه لا تصحبهم الملائكة، كما أخرجه مسلم، وأبو داود، وغيرهما، فكيف يشبه ما فعله الملك بأمر تنفر منه الملائكة؟.
والجواب: أنه لا يلزم في التشبيه تساوي المشبه والمشبه به في الصفات كلها، بل ولا في أخص وصف له. بل يكفي اشتراكهما في صفة ما، فالمقصود هنا بيان الجنس، فذكر ما ألف السامعون سماعه، تقريبا لأفهامهم. والحاصل أن الصوت له جهتان: جهة قوة وطنين، فمن حيث القوة وقع التشبيه به، ومن حيث الطرب وقع التنفير عنه، وعلل بكونه مزمار الشيطان. قيل: والصلصلة المذكورة صوت الملك بالوحي.
قال الخطابي: يريد أنه صوت متدارك يسمعه ولا يتبينه أول ما يسمعه حتى يفهمه بعد. وقيل: بل هو صوت حفيف أجنحة الملك. والحكمة في تقدمه أن يقرع سمعه الوحي، فلا يبقى فيه مكان لغيره.
ولما كان الجرس لا تحصل صلصلته إلا متداركة. وقع التشبيه دون غيره من الآلات.
قوله: [وهو أشد علي]، يفهم منه أن الوحي كله شديد، ولكن هذه الصفة أشدها، وهو واضح، أن الفهم من كلام مثل الصلصلة أو كل من الفهم من كلام الرجل بالتخاطب المعهود، والحكمة فيه أن العادة جرت بالمناسبة بين القائل وسامع، وهي هنا إما باتصاف السمع بوصف القائل بغلبة الروحانية وهو النوع الأول، وإما باتصاف السائل بوصف السامع وهو البشرية وهو النوع الثاني، والأول أشد بلا شك.
قوله: [فيفصم] بفتح أوله وسكون الفاء وكسر المهملة، أي يقلع ويتجلي ما يغشاني، ويروي بضم أوله، وفي رواية بضم أوله وفتح الصاد على البناء للمجهول، وأصل الفصم القطع، ومنه قوله تعالى:
(لا انفصام لها) [البقرة: ٢٥٦]، وقيل: الفصم بالفاء القطع بلا إبانة، وبالقاف القطع بإبانة، فذكر بالفصم إشارة إلى أن الملك فارقه ليعود، والجامع بينهما بقاء العلة.
قوله: [وقد وعيت عنه ما قال]، أي القول الذي جاء به، وفيه إسناد الوحي إلى قول الملك، ولا معارضة بينه وبين قوله تعالى - حكاية عمن قال من الكفار -: (إن هذا إلا قول البشر) [المدثر: ٢٥] لأنهم كانوا ينكرون الوحي، وينكرون مجئ الملك به.
قوله: [يتمثل لي الملك]، التمثل مشتق من المثل، أي يتصور، واللام في الملك للعهد وهو جبريل، وقد وقع التصريح به في رواية ابن سعد، وفيه دليل على أن الملك يتشكل بشكل البشر. قال المتكلون:
الملائكة أجسام علوية لطيفة تتشكل أي شكل أرادوا، وزعم بعض الفلاسفة أنها جواهر روحانية.
و [رجلا]، منصوب بالمصدرية، أي يتمثل مثل رجل، أو بالتمييز، أو بالحال، والتقدير هيئة الرجل. قال إمام الحرمين: تمثل جبريل معناه أن الله أفنى الزائد من خلقه، أو أزاله عنه، ثم يعيده إليه بعد. وجزم ابن عبد السلام بالإزالة دون الفناء، وقرر ذلك بأنه لا يلزم أن يكون انتقالها موجبا لموته، بل يجوز أن يبقى الجسد حيا، لأن موت الجسد بمفارقة الروح ليس بواجب عقلا، بل بعادة أجراها لله تعالى في بعض خلقه. ونظيره انتقال أرواح الشهداء إلى أجواف طيور خضر تسرح في الجنة. قال الحافظ في (الفتح): وقال شيخنا شيخ الإسلام: ما ذكره إمام الحرمين لا ينحصر الحال فيه، بل يجوز أن يكون الآتي هو جبريل بشكله الأصلي، إلا أنه انضم فصار على قدر هيئة الرجل، وإذا ترك ذلك عاد إلى هيئته، ومثال ذلك القطن، إذا جمع بعد أن كان منتفشا، فإنه بالنفش يحصل له صورة كبيرة، وذاته لم تتغير، وهذا على سبيل التقريب، والحق أن تمثل الملك رجلا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلا، بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسا لمن يخاطبه. والظاهر أيضا أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى، بل يخفى على الرائي فقط. والله أعلم.
قوله: [فيكلمني]، كذا للأكثر، ووقع في رواية البيهقي من طريق القعنبي عن مالك (فيعلمني) بالعين بدل الكاف، والظاهر أنه تصحيف، فقد وقع في الموطأ رواية القعنبي بالكاف، وكذا للدار قطني في حديث مالك من طريق القعنبي وغيره.
قوله: [فأعي ما يقول]، زاد أبو عوانه في صحيحه: (وهو أهونه علي). وقد وقع التغاير في الحالتين، حيث قال في الأول: (وقد وعيت) بلفظ الماضي، وهنا: (فأعي) بلفظ الاستقبال، لأن الوعي حصل في الأول قبل الفصم، وفي الثاني حصل حال المكالمة، أو أنه كان في الأول قد تلبس بالصفات الملكية فإذا عاد إلى حالته الحبلية كان حافظا لما قيل له، فعبر عنه بالماضي، فإنه عليه حالته المعهودة.
قوله: [قالت عائشة]، وحيث يريد التعليق يأتي بحرف العطف. وقد أخرجه الدارقطني في حديث مالك من طريق عتيق بن يعقوب، عن مالك مفصولا عن الحديث الأول، وكذا فصلهما مسلم من طريق أبي أسامة عن هشام، ونكتة هذا الاقتطاع هنا، اختلاف التحمل، لأنها في الأول أخبرت عن مسألة الحارث، وفي الثاني أخبرت عما شاهدت تأييدا للخبر الأول.
قوله: [ليتفصد] بالفاء وتشديد المهملة، مأخوذ من الفصد، وهو قطع العرق لإسالة الدم، شبه جبينه بالعرق المفصود مبالغة في كثرة العرق. وفي قولها: (اليوم الشديد البرد) دلالة على كثرة معاناة التعب والكرب عند نزول الوحي، لما فيه من مخالفة العدة، وهو كثرة العرق في شدة البرد، فإنه يشعر بوجود أمر طارئ زائد على الطباع البشرية.
قوله: [عرقا]، بالنصب على التمييز، زاد ابن أبي الزناد عن هشام بهذا الإسناد عند البيهقي في الدلائل: (وإن كان ليوحى إليه وهو على ناقته فيضرب حزامها من ثقل ما يوحى إليه). حكى العسكري في (التصحيف) عن بعض شيوخه أنه قرأ: (ليتقدد) القاف، ثم قال العسكري: إن ثبت فهو من قولهم: تقصد الشئ إذا تكسر وانقطع، ولا يخفى بعده.
وفي حديث الباب من الفوائد: أن السؤال عن الكيفية لطلب الطمأنينة لا يقدح في اليقين، وجواز السؤال عن أحوال الأنبياء من الوحي وغيره، وأن المسؤول عنه إذا كان ذا أقسام يذكر المجيب في أول جوابه ما يقتضي التفصيل. والله أعلم (فتح الباري): ١ / ٢٣ - ٢٨، كتاب بدء الوحي باب (٣) حديث رقم (٢)، (ابن سعد في طبقاته): ١ / ١٩٨، (تحفة الأحوذي): ١ / ٧٨ - ٧٩، أبواب المناقب، باب (34) كيف كان ينزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم، حديث رقم (3877)، (دلائل النبوة لأبي نعيم): 223 باب وأما كيفية إلقاء الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، حديث رمق (171).