فجعلوا يعتذرون إليه ويحلفون له، - وكانوا بضعة وثمانين رجلا -، فقبل منهم علانيتهم وإيمانهم. وقيل: بل خرج (1) عامة المنافقين إليه بذي أوان، فقال: لا تكلموا أحدا ممن تخلف عنا، ولا تجالسوه حتى آذن لكم، فلم يكلموهم.
المعذرون وقبول أعذارهم فلما قدم المدينة جاءه المعذرون يحلفون له، فأعرض عنهم وأعرض المؤمنون، حتى إن الرجل ليعرض عن أبيه وأخيه وعمه، فجعلوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم ويعتذرون بالحمي والأسقام، فيرحمهم ويقبل علانيتهم وأيمانهم، وحلفوا فصدقهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله.
خبر كعب بن مالك أحد الثلاثة الذين خلفوا وجاء كعب بن مالك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد، فلما سلم عليه تبسم تبسم المغضب ثم قال: تعال! فجاء حتى جلس بين يديه، فقال:
ما خلفك؟ ألم تكن ابتعت ظهرك (2)؟ فقال: بلى يا رسول الله، والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، لقد أعطيت جدلا، ولكن والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديثا كاذبا لترضي عني، ليوشكن الله أن يسخط علي، ولئن حدثتك اليوم حديثا صادقا تجد على (3) فيه، إني لأرجو عقبى الله فيه. لا والله ما كان لي عذر! والله ما كنت أقوى وال أيسر مني حين تخلفت عنك! فقال عليه السلام: أما أنت فقد صدقت! فقم حتى يقضي الله فيك.
فقام ومعه رجال من بني سلمة، فقالوا له: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا! ولقد عجزت ألا تكون اعتذرت بما اعتذر به المخلفون، قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله لك. حتى كاد أن يرجع فيكذب نفسه، فلقيه معاذ بن جبل وأبو قتادة (4)، فقالا لي: لا تطع أصحابك وأقم على الصدق، فإن الله سيجعل لك فرجا ومخرجا إن شاء الله تعالى، فأما هؤلاء المعذرون، فإن كانوا صادقين