وكان أشد الناس قتالا ذلك اليوم الفقيه عيسى رحمه الله وتمت الهزيمة على المسلمين وحمل بعض الفرنج على صلاح الدين فقاربه حتى كاد يصل إليه فقتل الفرنجي بين يديه وتكاثر الفرنج عليه فمضى منهزما يسير قليلا ويقف ليلحقه العسكر إلى أن دخل الليل فسلك البرية إلى أن مضى في نفر يسير إلى مصر ولقوا في طريقهم مشقة شديدة وقل عليهم القوات والماء وهلك كثير من دواب العسكر جوعا وعطشا وسرعة سير.
وأما العسكر الذي كانوا دخلوا بلاد الفرنج في الغارة فإن أكثرهم ذهب ما بين قتيل وأسير وكان من جملة من أسر الفقيه عيسى الهكاري وهو من أعيان الأسدية وكان جمع العلم والدين والشجاعة وأسر أيضا أخوه الظهير وكانا قد سارا منهزمين فضلا الطريق فأخذا ومعها جماعة من أصحابهما وبقوا سنين في الأسر فافتدى صلاح الدين الفقيه عيسى بستين الف دينار وجماعة كثيرة من الأسرى ووصل صلاح الدين إلى القاهرة نصف جمادى الآخرة ورأيت كتابا كتبه صلاح الدين بخط يده إلى أخيه شمس الدولة تورانشاه وهو بدمشق يذكر الوقعة وفي أوله:
(ذكرتك والخطي يخطر بيننا * وقد نهلت منا المثقفة السمر) ويقول فيه لقد أشرفنا على الهلاك غير مرة وما أنجانا الله سبحانه منه إلا لأمر يريد سبحانه:
(وما ثبتت إلا وفي نفسها أمر)