وأما المعقول، فهو أنه لو جاز أن يذهب على أهل العصر الأول الدليل الثاني، لجاز أن يوحي الله تعالى إلى النبي، عليه السلام، بدليلين على حكم واحد، والنبي عليه السلام، يشرع الحكم لاحد الدليلين، ويذهب عن الآخر، وهو ممتنع.
والجواب: عن الآية الأولى أن الذم فيها، إما أن يكون على ترك العمل بما اتفقوا عليه من إثبات أو نفي، وإما بسلوك ما لم يتعرضوا له بنفي ولا إثبات:
الأول مسلم، غير أنه لا تحقق له فيما نحن فيه، فإن المحدث للدليل والتأويل الثاني غير تارك لدليل أهل العصر الأول، ولا لتأويلهم، بل غايته ضم دليل إلى دليل، وتأويل إلى تأويل، ولا هو تارك لما نهوا عنه من الدليل والتأويل الثاني، إذ الكلام فيما إذا لم يكن قد نهوا عنه. والثاني مما لا سبيل إلى حمل الآية عليه، لما فيه من إلحاق الذم بما لا تعرض فيه لابطال الاجماع لا بنفي ولا إثبات.
وعن الآية الثانية أنها مشتركة الدلالة، وذلك لان قوله: * (وتنهون عن المنكر) * يقتضي كونهم ناهين عن كل منكر لما ذكروه من لام الاستغراق. ولو كان الدليل والتأويل الثاني منكرا، لنهوا عنه، ولم ينهوا عنه، فلا يكون منكرا.
وعن السنة أن ذهابهم عن الدليل والتأويل الثاني مع صحته إنما يكون خطأ، أن لو لم يستغنوا عنه بدليلهم وتأويلهم.
وعن المعقول أنه قياس من غير جامع صحيح، فلا يقبل كيف وإنه لا يخلو إما أن يكون مع تعريفه الحكم الواحد بدليلين قد كلف إثبات الحكم بهما أو بأحدهما، فإن كان الثاني فلا مانع من إثباته للحكم بأحدهما دون الآخر، وإن كان الأول فلا يلزم من امتناع إثباته للحكم بأحد الدليلين مع تكليفه إثبات الحكم بهما امتناع إثبات الأمة للحكم بأحد الدليلين دون الآخر إلا أن يكونوا قد كلفوا بذلك، وهو غير مسلم.