ومن بعض الأدواء صلح بأن يوصف بأنه فيه شفاء، والذي يدل على أنه شفاء في الجملة أنه قال معجون من المعاجين إلا وتمامه وكماله إنما يحصل بالعجن بالعسل، وأيضا فالأشربة المتخذة منه في الأمراض البلغمية عظيمة النفع.
والقول الثاني: وهو قول مجاهد أن المراد: أن القرآن شفاء للناس، وعلى هذا التقدير فقصة تولد العسل من النحل تمت عند قوله: * (يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه) * ثم ابتدأ وقال: * (فيه شفاء للناس) * أي في هذا القرآن حصل ما هو شفاء للناس من الكفر والبدعة، مثل هذا الذي في قصة النحل. وعن ابن مسعود: أن العسل شفاء من كل داء، والقرآن شفاء لما في الصدور.
واعلم أن هذا القول ضعيف ويدل عليه وجهان: الأول: أن الضمير في قوله: * (فيه شفاء للناس) * يجب عوده إلى أقرب المذكورات، وما ذاك إلا قوله: * (شراب مختلف ألوانه) * وأما الحكم بعود هذا الضمير إلى القرآن مع أنه غير مذكور فيما سبق، فهو غير مناسب. والثاني: ما روى أبو سعيد الخدري: أنه جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن أخي يشتكي بطنه فقال: " اسقه عسلا " فذهب ثم رجع فقال: قد سقيته فلم يغن عنه شيئا، فقال عليه الصلاة والسلام: " اذهب واسقه عسلا " فذهب فسقاه، فكأنما نشط من عقال، فقال: " صدق الله وكذب بطن أخيك " وحملوا قوله: " صدق الله وكذب بطن أخيك " على قوله: * (فيه شفاء للناس) * وذلك إنما يصح لو كان هذا صفة للعسل.
فإن قال قائل: ما المراد بقوله عليه السلام: " صدق الله وكذب بطن أخيك ".
قلنا: لعله عليه السلام علم بنور الوحي أن ذلك العسل سيظهر نفعه بعد ذلك، فلما لم يظهر نفعه في الحال مع أنه عليه السلام كان عالما بأنه سيظهر نفعه بعد ذلك، كان هذا جاريا مجرى الكذب، فلهذا السبب أطلق عليه هذا اللفظ.
ثم أنه تعالى ختم الآية بقوله: * (إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون) * واعلم أن تقرير هذه الآية من وجوه: الأول: اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة والمعارف الغامضة مثل بناء البيوت المسدسة وسائر الأحوال التي ذكرناها. والثاني: اهتداؤها إلى جميع تلك الأجزاء العسلية من أطراف الأشجار والأوراق. والثالث: خلق الله تعالى الأجزاء النافعة في جو الهواء، ثم إلقاؤها على أطراف الأشجار والأوراق، ثم إلهام النحل إلى جمعها بعد تفريقها وكل ذلك أمور عجيبة دالة على أن إله العالم بنى ترتيبه على رعاية الحكمة والمصلحة، والله أعلم.