الاحتراز العظيم عن المرأة حال حيضها وشرع عيسى يقتضي حل وطء الحائض، والعدل ما حكم به شرعنا وهو أنه محرم وطؤها احترازا عن التلطخ بتلك الدماء الخبيثة أما لا يجب إخراجها عن الدار. وثالثها: أنه تعالى قال: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) * (البقرة: 143) يعني متباعدين عن طرفي الإفراط والتفريط في كل الأمور، وقال: * (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) * (الفرقان: 67) وقال: * (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط) * (الإسراء: 29) ولما بالغ رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبادات قال تعالى: * (طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) * (طه: 1، 2) ولما أخذ قوم في المساهلة قال: * (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا) * (المؤمنون: 115) والمراد من الكل رعاية العدل والوسط. ورابعها: أن شريعتنا أمرت بالختان، والحكمة فيه أن رأس العضو جسم شديد الحس ولأجله عظم الالتذاذ عند الوقاع، فلو بقيت الجلدة على ذلك العضو بقي ذلك العضو على كمال القوة وشدة الإحساس فيعظم الإلتذاذ أما إذا قطعت تلك الجلدة وبقي ذلك العضو عاريا فيلقى الثياب وسائر الأجسام فيتصلب ويضعف حسه ويقل شعوره فيقل الالتذاذ بالوقاع فتقل الرغبة فيه، فكأن الشريعة إنما أمرت بالختان سعيا في تقليل تلك اللذة، حتى يصير ميل الإنسان إلى قضاء شهوة الجماع إلى حد الاعتدال، وأن لا تصير الرغبة فيه غالبة على الطبع، فالإخصاء وقطع الآلات على ما تذهب إليه المانوية مذموم لأنه إفراط، وإبقاء تلك الجلدة مبالغة في تقوية تلك اللذة، والعدل الوسط هو الإتيان بالختان، فظهر بهذه الأمثلة أن العدل واجب الرعاية في جميع الأحوال، ومن الكلمات المشهورة قولهم: وبالعدل قامت السماوات والأرض، ومعناه: أن مقادير العناصر لو لم تكن متعادلة متكافئة، بل كان بعضها أزيد بحسب الكمية وبحسب الكيفية من الآخر، لاستولى الغالب على المغلوب ووهى المغلوب، وتنقلب الطبائع كلها إلى طبيعة الجرم الغالب، ولو كان بعد الشمس من الأرض أقل مما هو الآن، لعظمت السخونة في هذا العالم واحترق كل ما في هذا العالم، ولو كان بعدها أزيد مما هو الآن لاستولى البرد والجمود على هذا العالم، وكذا القول في مقادير حركات الكواكب ومراتب سرعتها وبطئها، فإن الواحد منها لو كان أزيد مما هو الآن أو كان أنقص مما هو الآن لاختلت مصالح هذا العالم فظهر بهذا السبب الذي ذكرناه صدق قولهم: وبالعدل قامت السماوات والأرض، فهذه إشارة مختصرة إلى شرح حقيقة العدل. وأما الإحسان فاعلم أن الزيادة على العدل قد تكون إحسانا وقد تكون إساءة مثاله: أن العدل في الطاعات هو أداء الواجبات أما الزيادة على الواجبات فهي أيضا طاعات وذلك من باب الإحسان، وبالجملة فالمبالغة في أداء الطاعات بحسب الكمية وبحسب الكيفية هو الإحسان. والدليل عليه: أن جبريل لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحسان قال: " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ".
(١٠٣)