في الشاهد المشكور ينتفع بالشكر فيسره الشكر ويسوءه الكفران، فلا جرم كان الشكر حسنا والكفران قبيحا، أما الله سبحانه فإنه لا يسره الشكر ولا يسوءه الكفران، فلا ينتفع بهذا الشكر أصلا. والثاني: أيضا باطل لأن الشاكر يتعب في الحال بذلك الشكر ويبذل الخدمة مع أن المشكور لا ينتفع به البتة ولا يمكن أن يقال إن ذلك الشكر علة الثواب، لأن الاستحقاق على الله تعالى محال فإن الاستحقاق على الغير إنما يعقل إذا كان ذلك الغير بحيث لو لم يعط لأوجب امتناعه من إعطاء ذلك الحق حصول نقصان في حقه، ولما كان الحق سبحانه منزها عن النقصان والزيادة لم يعقل ذلك في حقه، فثبت أن الاشتغال بالإيمان وبالشكر، لا يفيد نفعا بحسب العقل المحض وما كان كذلك امتنع أن يكون العقل موجبا له، فثبت بهذا البرهان القاطع صحة قوله تعالى: * (وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله) * قال القاضي: المراد أن الإيمان لا يصدر عنه إلا بعلم الله أو بتكليفه أو بإقداره عليه.
وجوابنا: أن حمل الإذن على ما ذكرتم ترك للظاهر وذلك لا يجوز، لا سيما وقد بينا أن الدليل القاطع العقلي يقوي قولنا.
المسألة الثالثة: قرأ أبو بكر عن عاصم * (ونجعل) * بالنون وقرأ الباقون بالياء كناية عن اسم الله تعالى.
المسألة الرابعة: احتج أصحابنا على صحة قولهم بأن خالق الكفر والإيمان هو الله تعالى بقوله تعالى: * (ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون) * وتقريره أن الرجس قد يراد به العمل القبيح قال تعالى: * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) * (الأحزاب: 33) والمراد من الرجس ههنا العمل القبيح، سواء كان كفرا أو معصية، وبالتطهير نقل العبد من رجس الكفر والمعصية إلى طهارة الإيمان والطاعة، فلما ذكر الله تعالى فيما قبل هذه الآية أن الإيمان لا يحصل إلا بمشيئة الله تعالى وتخليقه، ذكر بعده أن الرجس لا يحصل إلا بتخليقه وتكوينه. والرجس الذي يقابل الإيمان ليس إلا الكفر، فثبت دلالة هذه الآية على أن الكفر والإيمان من الله تعالى.
أجاب أبو علي الفارسي النحوي عنه فقال: الرجس، يحتمل وجهين آخرين: أحدهما: أن يكون المراد منه العذاب، فقوله: * (ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون) * أي يلحق العذاب بهم كما قال: * (ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات) * (الفتح: 6) والثاني: أنه تعالى يحكم عليهم بأنهم رجس كما قال: * (إنما المشركون نجس) * (التوبة: 28) والمعنى أن الطهارة الثابتة للمسلمين لم تحصل لهم.
والجواب: أنا قد بينا بالدليل العقلي أن الجهل لا يمكن أن يكون فعلا للعبد لأنه لا يريده ولا يقصد