وإن عطف على المحل، وجب كونه مرفوعا، ونظيره قوله ما أتاني من أحد عاقل وعاقل، وكذا قوله: * (مالكم من إله غيره) * (الأعراف: 59) وغيره وقال الشاعر: فلسنا بالجبال ولا الحديدا هذا ما ذكره النحويون، قال صاحب " الكشاف ": لو صح هذا العطف لصار تقدير هذه الآية وما يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء إلا في كتاب: وحينئذ يلزم أن يكون الشيء الذي في الكتاب خارجا عن علم الله تعالى وأنه باطل.
وأجاب بعض المحققين عنه بوجهين:
الوجه الأول: أنا بينا أن العزوب عبارة عن مطلق البعد.
وإذا ثبت هذا فنقول: الأشياء المخلوقة على قسمين: قسم أوجده الله تعالى ابتداء من غير واسطة كالملائكة والسماوات والأرض، وقسم آخر أوجده الله بواسطة القسم الأول، مثل: الحوادث الحادثة في عالم الكون والفساد، ولا شك أن هذا القسم الثاني قد يتباعد في سلسلة العلية والمعلولية عن مرتبة وجود واجب الوجود فقوله: * (وما يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين) * أي لا يبعد عن مرتبة وجوده مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء إلا وهو في كتاب مبين وهو كتاب كتبه الله تعالى وأثبت صور تلك المعلومات فيه، ومتى كان الأمر كذلك فقد كان عالما بها محيطا بأحوالها، والغرض منه الرد على من يقول: إنه تعالى غير عالم بالجزئيات، وهو المراد من قوله: * (إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) * (الجاثية: 29).
والوجه الثاني: في الجواب أن نجعل كلمة * (إلا) * في قوله: * (إلا في كتاب مبين) * استثناء منقطعا لكن بمعنى هو في كتاب مبين، وذكر أبو علي الجرجاني صاحب " النظم " عنه جوابا آخر فقال: قوله: * (وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر) * ههنا تم الكلام وانقطع ثم وقع الابتداء بكلام آخر، وهو قوله: * (إلا في كتاب مبين) * أي وهو أيضا في كتاب مبين. قال: والعرب تضع " إلا " موضع " واو النسق " كثيرا على معنى الابتداء، كقوله تعالى: * (لا يخاف لدى المرسلون إلا من ظلم) * (النمل: 10) يعني ومن ظلم. وقوله: * (لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا) * (البقرة: 150) يعني والذين ظلموا، وهذا الوجه في غاية التعسف.
وأجاب صاحب " الكشاف ": بوجه رابع فقال: الإشكال إنما جاء إذا عطفنا قوله: * (ولا أصغر من ذلك ولا أكبر) * على قوله: * (من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء) * إما بحسب الظاهر أو بحسب المحل، لكنا لا نقول ذلك، بل نقول: الوجه في القراءة بالنصب في قوله: * (ولا أصغر من ذلك) * الحمل