الوجه الأول: أنه تعالى قال: * (وهو معكم) * ولا شك أن هذه المعية بالفضل والرحمة لا بالجهة فكذا ههنا، وأيضا جاء في الأخبار الربانية أنه تعالى قال: " أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي " ولا خلاف أن هذه العندية ليست لأجل المكان والجهة، فكذا ههنا.
والوجه الثاني: إن المراد القرب بالشرف. يقال: للوزير قربة عظيمة من الأمير، وليس المراد منه القرب بالجهة، لأن البواب والفراش يكون أقرب إلى الملك في الجهة والحيز والمكان من الوزير، فعلمنا أن القرب المعتبر هو القرب بالشرف لا القرب بالجهة.
والوجه الثالث: أن هذا تشريف للملائكة بإضافتهم إلى الله من حيث إنه أسكنهم في المكان الذي كرمه وشرفه وجعله منزل الأنوار ومصعد الأرواح والطاعات والكرامات.
والوجه الرابع: إنما قال تعالى في صفة الملائكة: * (الذين عند ربك) * لأنهم رسل الله إلى الخلق كما يقال: إن عند الخليفة جيشا عظيما، وإن كانوا متفرقين في البلد، فكذا ههنا. والله أعلم.
المسألة الثانية: تمسك أبو بكر الأصم رحمه الله بهذه الآية في إثبات أن الملائكة أفضل من البشر، لأنه تعالى لما أمر رسوله بالعبادة والذكر قال: * (إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته) * والمعنى فأنت أولى وأحق بالعبادة، وهذا الكلام إنما يصح لو كانت الملائكة أفضل منه.
المسألة الرابعة: ذكر من طاعاتهم أولا كونهم يسبحون، وقد عرفت أن التسبيح عبارة عن تنزيه الله تعالى من كل سوء، وذلك يرجع إلى المعارف والعلوم، ثم لما ذكر التسبيح أردفه بذكر السجود، وذلك يرجع إلى أعمال الجوارح، وهذا الترتيب يدل على أن الأصل في الطاعة والعبودية أعمال القلوب، ويتفرع عليها أعمال الجوارح. وأيضا قوله: * (وله يسجدون) * يفيد الحصر ومعناه: أنهم لا يسجدون لغير الله.
فإن قيل: فكيف الجمع بينه وبين قوله تعالى: * (فسجد الملائكة كلهم أجمعون) * (الحجر: 30 ص: 73) والمراد أنهم سجدوا لآدم؟
والجواب: قال الشيخ الغزالي: الذين سجدوا لآدم ملائكة الأرض. فأما عظماء ملائكة السماوات فلا. وقيل أيضا: إن قوله: * (وله يسجدون) * يفيدون أنهم ما سجدوا لغير الله، فهذا يفيد العموم. وقوله: فسجدوا لآدم خاص، والخاص مقدم على العام.