والحاصل أن الانهزام من العدو حرام إلا في هاتين الحالتين.
ثم إنه تعالى قال: * (ومن يولهم يومئذ دبره) * إلا في هاتين الحالتين، فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير.
المسألة الثانية: احتج القاضي بهذه الآية على القطع بوعيد الفساق من أهل الصلاة، وذلك لأن الآية دلت على أن من انهزم إلا في هاتين الحالتين استوجب غضب الله ونار جهنم. قال وليس للمرجئة أن يحملوا هذه الآية على الكفار دون أهل الصلاة، كصنعهم في سائر آيات الوعيد، لأن هذا الوعيد مختص بأهل الصلاة.
واعلم أن هذه المسألة قد ذكرناها على الاستقصاء في سورة البقرة، وذكرنا أن الاستدلال بهذه الظواهر لا يفيد إلا الظن، وقد ذكرنا أيضا أنها معارضة بعمومات الوعد، وذكرنا أن الترجيح بجانب عمومات الوعد من الوجوه الكثيرة، فلا فائدة في الإعادة.
المسألة الثالثة: اختلف المفسرون في أن هذا الحكم هل هو مختص بيوم بدر أو هو حاصل على الإطلاق، فنقل عن أبي سعيد الخدري والحسن وقتادة والضحاك أن هذا الحكم مختص بمن كان انهزم يوم بدر، قالوا: والسبب في اختصاص يوم بدر بهذا الحكم أمور: أحدها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حاضرا يوم بدر ومع حضوره لا يعد غيره فيه، أما لأجل أنه لا يساوي به سائر الفئات. بل هو أشرف وأعلى من الكل، وأما لأجل أن الله تعالى وعده بالنصر والظفر فلم يكن لهم التحيز إلى فئة أخرى. وثانيها: أنه تعالى شدد الأمر على أهل بدر، لأنه كان أول الجهاد ولو اتفق للمسلمين انهزام فيه، لزم منه الخلل العظيم، فلهذا وجب عليهم التشدد والمبالغة، ولهذا السبب منع الله في ذلك اليوم من أخذ الفداء من الأسرى.
والقول الثاني: أن الحكم المذكور في هذه الآية كان عاما في جميع الحروب، بدليل أن قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا) * عام فيتناول جميع السور، أقصى ما في الباب أنه نزل في واقعة بدر، لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
المسألة الرابعة: اختلفوا في أن جواز التحيز إلى فئة هل يحظر إذا كان العسكر عظيما أو إنما يثبت إذا كان في العسكر خفة؟ قال بعضهم: إذا عظم العسكر فليس لهم هذا التحيز. وقال بعضهم: بل الكل سواء، وهذا أليق بالظاهر لأنه لم يفصل.