عليهم فكيف يمكن أن يقال في حقهم أنه * (سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا) *.
والجواب عنه: أن ذلك الغضب إنما حصل في الدنيا لا في الآخرة، وتفسير ذلك الغضب هو أن الله تعالى أمرهم بقتل أنفسهم، والمراد بقوله: * (وذلة في الحياة الدنيا) * هو أنهم قد ضلوا فذلوا.
فإن قالوا: السين في قوله: * (سينالهم) * للاستقبال، فكيف يحمل هذا على حكم الدنيا؟
قلنا: هذا الكلام حكاية عما أخبر الله تعالى به موسى عليه السلام حين أخبره بافتتان قومه واتخاذهم العجل، فأخبره في ذلك الوقت أنه سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا، فكان هذا الكلام سابقا على وقوعهم في القتل وفي الذلة، فصح هذا التأويل من هذا الاعتبار.
والطريق الثاني: أن المراد بالذين اتخذوا العجل أبناؤهم الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا التقدير: ففي الآية وجهان:
الوجه الأول: أن العرب تعير الأبناء بقبائح أفعال الآباء كما تفعل ذلك في المناقب. يقولون للأبناء: فعلتم كذا وكذا، وإنما فعل ذلك من مضى من آبائهم، فكذا ههنا وصف اليهود الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم باتخاذ العجل، وإن كان آباؤهم فعلوا ذلك، ثم حكم عليهم بأنه * (سينالهم غضب من ربهم) * في الآخرة * (وذلة في الحياة الدنيا) * كما قال تعالى في صفتهم: * (ضربت عليهم الذلة والمسكنة) * (لبقرة: 61).
والوجه الثاني: أن يكون التقدير * (إن الذين اتخذوا العجل) * أي الذين باشروا ذلك * (سينالهم غضب) * أي سينال أولادهم، ثم حذف المضاف بدلالة الكلام عليه.
أما قوله تعالى: * (وكذلك نجزي المفترين) * فالمعنى أن كل مفتر في دين الله فجزاؤه غضب الله والذلة في الدنيا، قال مالك بن أنس: ما من مبتدع إلا ويجد فوق رأسه ذلة، ثم قرأ هذه الآية، وذلك لأن المبتدع مفتر في دين الله.
أما قوله تعالى: * (والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا) * فهذا يفيد أن من عمل السيئات فلا بد وأن يتوب عنها أولا، وذلك بأن يتركها أولا ويرجع عنها، ثم يؤمن بعد ذلك. وثانيا: يؤمن بالله تعالى، ويصدق بأنه لا إله غيره * (إن ربك من بعدها لغفور رحيم) * وهذه الآية تدل على أن السيئات بأسرها مشتركة في أن التوبة منها توجب الغفران، لأن قوله: * (والذين عملوا السيئات) * يتناول الكل. والتقدير: أن من أتى بجميع السيئات ثم تاب فإن الله يغفرها له، وهذا من أعظم ما يفيد البشارة والفرح للمذنبين، والله أعلم.