الجلال، فإذا كشفوا بالجمال عاشوا، وإذا كوشفوا بالجلال طاشوا، ولا بد في مقام الذكر من رعاية الجانبين.
القيد الثالث: قوله: * (وخيفة) * وفي قراءة أخرى * (وخفية) * وقال الزجاج: أصلها " خوفة " فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، أقول هذا الخوف يقع على وجوه: أحدها: خوف التقصير في الأعمال. وثانيها: خوف الخاتمة. والمحققون خوفهم من السابقة، لأنه إنما يظهر في الخاتمة ما سبق الحكم به في الفاتحة، ولذلك كان عليه السلام يقول: " جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ". وثالثها: خوف أني كيف أقابل نعمة الله التي لا حصر لها ولا حد بطاعاتي الناقصة وأذكاري القاصرة؟ وكان الشيخ أبو بكر الواسطي يقول: الشكر شرك، فسألوني عن هذه الكلمة فقلت: لعل المراد والله أعلم أن من حاول مقابلة وجوه إحسان الله بشكره فقد أشرك.
لأن على هذا التقدير يصير كأن العبد يقول: منك النعمة ومني الشكر، ولا شك أن هذا شرك، فأما إذا أتى بالشكر مع خوف التقصير ومع الاعتراف بالذل والخضوع، فهناك يشم فيه رائحة العبودية.
وأما القراءة الثانية: وهو قوله: * (وخفية) * فالإخفاء في حق المبتدين يراد لصون الطاعات عن شوائب الرياء والسمعة، وفي حق المنتهين المقربين منشؤه الغيرة، وذلك لأن المحبة إذا استكملت أوجبت الغيرة، فإذا كمل هذا التوغل وحصل الفناء، وقع الذكر في حين الإخفاء بناء على قوله عليه السلام: " من عرف الله كل لسانه ".
القيد الرابع: قوله: * (ودون الجهر من القول) * والمراد منه أن يقع ذلك الذكر بحيث يكون متوسطا بين الجهر والمخافتة كما قال تعالى: * (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا) * (الإسراء: 110) وقال عن زكريا عليه السلام: * (إذ نادى ربه نداء خفيا) * (مريم: 3) قال ابن عباس: وتفسير قوله: * (ودون الجهر من القول) * المعنى أن يذكر ربه على وجه يسمع نفسه، فإن المراد حصول الذكر اللساني، والذكر اللساني إذا كان بحيث يسمع نفسه، فإنه يتأثر الخيال من ذلك الذكر، وتأثر الخيال يوجب قوة في الذكر القلبي الروحاني، ولا يزال يتقوى كل واحد من هذه الأركان الثلاثة، وتنعكس أنوار هذه الأذكار من بعضها إلى بعض، وتصير هذه الانعكاسات سببا لمزيد القوة والجلاء والانكشاف والترقي من حضيض ظلمات عالم الأجسام إلى أنوار مدبر النور والظلام.
والقيد الخامس: قوله: * (بالغدو والآصال) * وههنا مسائل:
المسألة الأولى: في لفظ " الغدو " قولان:
القول الأول: أنه مصدر يقال غدوت أغدو غدوا غدوا، ومنه قوله تعالى: * (غدوها شهر) * (سبأ: 12)