الحكم الثالث أنه تعالى قال: * (واذكر ربك في نفسك) * ولم يقل: واذكر إلهك ولا سائر الأسماء، وإنما سماه في هذا المقام باسم كونه ربا، وأضاف نفسه إليه، وكل ذلك يدل على نهاية الرحمة والتقريب والفضل والإحسان، والمقصود منه، أن يصير العبد فرحا مبتهجا عند سماع هذا الاسم، لأن لفظ الرب مشعر بالتربية والفضل، وعند سماع هذا الاسم يتذكر العبد أقسام نعم الله عليه، وبالحقيقة لا يصل عقله إلى أقل أقسامها، كما قال تعالى: * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) * (إبراهيم: 34) فعند انكشاف هذا المقام في القلب يقوى الرجاء، فإذا سمع بعد ذلك قوله: * (تضرعا وخيفة) * عظم الخوف، وحينئذ تحصل في القلب موجبات الرجاء وموجبات الخوف، وعنده يكمل الإيمان على ما قال عليه السلام: " لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا " إلا أن هنا دقيقة، وهي أن سماع لفظ الرب يوجب الرجاء وسماع لفظ التضرع والخيفة يوجب الخوف، فلما وقع الابتداء بما يوجب الرجاء، علمنا أن جانب الرجاء أقوى.
القيد الثاني: من القيود المعتبرة في الذكر حصول التضرع، وإليه الإشارة بقوله تعالى: * (تضرعا) * وهذا القيد معتبر، ويدل عليه القرآن، والمعقول. أما القرآن فقوله في سورة الأنعام * (قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية) * (الأنعام: 63) وأما المعقول: فلأن كمال حال الإنسان إنما يحصل بانكشاف أمرين: أحدهما: عزة الربوبية، وهذا المقصود، إنما يتم بقوله: * (واذكر ربك في نفسك) * الثاني: بمشاهدة ذلة العبودية وذلك إنما يكمل بقوله: * (تضرعا) * فالانتقال من الذكر إلى التضرع يشبه النزول من المعراج، والانتقال من التضرع إلى الذكر يشبه الصعود، وبهما يتم معراج الأرواح القدسية وههنا بحث وهو أن معرفة الله من لوازمها التضرع، والخوف، والذكر القلبي يمتنع انفكاكه عن التضرع والخوف، فما الفائدة في اعتبار هذا التضرع والخوف؟ وأجيب عنه بأن المعرفة لا يلزمها التضرع والخوف على الإطلاق، لأنه ربما استحكم في عقل الإنسان أنه تعالى لا يعاقب أحدا لأن ذلك العقاب إيذاء للغير، ولا فائدة للحق فيه. وإذا كان كذلك لا يعذب فإذا اعتقد هذا، لم يكمل التضرع والخوف. فلهذا السبب نص الله تعالى على أنه لا بد منه وأجيب عنه بأن الخوف على قسمين: الأول: خوف العقاب، وهو مقام المبتدين. والثاني: خوف الجلال وهو مقام المحققين، وهذا الخوف ممتنع الزوال وكل من كان أعرف بجلال الله كان هذا الخوف في قلبه أكمل، وأجيب عن هذا الجواب بأن لأصحاب المكاشفات مقامين: مكاشفة الجمال، ومكاشفة