فيه الفساد بمعنى وقع فيه سريعا، فكذلك مسارعتهم في الكفر عبارة عن إلقائهم أنفسهم فيه على أسرع الوجوه متى وجدوا فيه فرصة، وقوله * (من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم) * فيه تقديم وتأخير، والتقدير: من الذين قالوا بأفواههم آمنا ولم تؤمن قلوبهم ولا شك أن هؤلاء هم المنافقون. ثم قال تعالى: * (ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: ذكر الفراء والزجاج ههنا وجهين: الأول: أن الكلام إنما يتم عند قوله * (ومن الذين هادوا) * ثم يبتدأ الكلام منقوله * (سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين) * وتقدير الكلام: لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من المنافقين ومن اليهود، ثم بعد ذلك وصف الكل بكونهم سماعين لقوم آخرين. الوجه الثاني: أن الكلام تم عند قوله * (ولم تؤمن قلوبهم) * ثم ابتدأ من قوله * (ومن الذين هادوا سماعون للكذب) * وعلى هذا التقدير فقوله * (سماعون) * صفة محذوف، والتقدير: ومن الذين هادوا قوم سماعون. وقيل: خبر مبتدأ محذوف، يعني هم سماعون. المسألة الثانية: ذكر الزجاج في قوله * (سماعون للكذب) * وجهين: الأول: أن معناه قابلون للكذب، والسمع يستعمل ويراد منه القبول، كما يقال: لا تسمع من فلان أي لا تقبل منه، ومنه " سمع الله لمن حمده "، وذلك الكذب الذي يقبلونه هو ما يقوله رؤساؤهم من الأكاذيب في دين الله تعالى في تحريف التوراة، وفي الطعن في محمد صلى الله عليه وسلم. والوجه الثاني: أن المراد من قوله * (سماعون للكذب) * نفس السماع، واللام في قوله * (للكذب) * لام كي، أي يسمعون منك لكي يكذبوا عليك. وأما قوله * (سماعون لقوم آخرين لم يأتوك) * فالمعنى أنهم أعين وجواسيس لقوم آخرين لم يأتوك ولم يحضروا عندك لينقلوا إليهم أخبارك، فعلى هذا التقدير قوله * (سماعون للكذب) * أي سماعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأجل أن يكذبوا عليه بأن يمزجوا ما سمعوا منه بالزيادة والنقصان والتبديل والتغيير، سماعون من رسول الله لأجل قوم آخرين من اليهود، وهم عيون ليبلغوهم ما سمعوا منه.
ثم إنه تعالى وصف هؤلاء اليهود بصفة أخرى فقال * (يحرفون الكلم من بعد مواضعه) * أي من بعد أن وضعه الله مواضعه، أي فرض فروضه وأحل حلاله وحرم حرامه. قال المفسرون: إن رجلا وامرأة من أشراف أهل خيبر زنيا، وكان حد الزنا في التوراة الرجم، فكرهت اليهود رجمهما لشرفهما، فأرسلوا قوما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسألوه عن حكمه في الزانيين إذا أحصنا،