إعلم أنه تعالى لما قرر بالآية الأولى على جميع المكلفين أنه يلزمهم الانقياد لجميع تكاليف الله تعالى، وذلك كالأصل الكلي والقاعدة الجميلة، شرع بعد ذلك في ذكر التكاليف المفصلة، فبدأ بذكر ما يحل وما يحرم من المطعومات فقال: * (أحلت لكم بهيمة الأنعام) * وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قالوا: كل حي لا عقل له فهو بهيمة، من قولهم: استبهم الأمر على فلان إذا أشكل، وهذا باب مبهم أي مسدود الطريق، ثم اختص هذا الاسم بكل ذات أربع في البر والبحر، والأنعام هي الإبل والبقر والغنم، قال تعالى: * (والأنعام خلقها لكم فيها دفء) * إلى قوله * (والخيل والبغال والحمير) * (النحل: 5 - 8) ففرق تعالى بين الأنعام وبين الخيل والبغال والحمير. وقال تعالى: * (مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون * وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون) * (يس: 71، 72) وقال: * (ومن الأنعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم الله) * إلى قوله * (ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين) * وإلى قوله * (ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين) * (للأنعام: 142 - 144) قال الواحدي رحمه الله: ولا يدخل في اسم الأنعام الحافر لأنه مأخوذ من نعومة الوطء. إذا عرفت هذا فنقول: في لفظ الآية سؤالات: الأول: أن البهيمة اسم الجنس، والأنعام اسم النوع فقوله * (بهيمة الأنعام) * يجري مجرى قول القائل: حيوان الإنسان وهو مستدرك. الثاني: أنه تعالى لو قال: أحلت لكم الأنعام، لكان الكلام تاما بدليل أنه تعالى قال في آية أخرى * (وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم) * (الحج: 30) فأي فائدة في زيادة لفظ البهيمة في هذه الآية. الثالث: أنه ذكر لفظ البهيمة بلفظ الوحدان، ولفظ الأنعام بلفظ الجمع، فما الفائدة فيه؟ والجواب عن السؤال الأول من وجهين: الأول: أن المراد بالبهيمة وبالأنعام شيء واحد، وإضافة البهيمة إلى الأنعام للبيان، وهذه الإضافة بمعنى * (من) * كخاتم فضة، ومعناه البهيمة من الأنعام أو للتأكد كقولنا: نفس الشيء وذاته وعينه. الثاني: أن المراد بالبهيمة شيء، وبالأنعام شيء آخر وعلى هذا التقدير ففيه وجهان: الأول: أن المراد من بهيمة الأنعام الظباء وبقر الوحش ونحوها، كأنهم أرادوا ما يماثل الأنعام ويدانيها من جنس البهائم في الاجترار وعدم الأنياب، فأضيفت إلى الأنعام لحصول المشابهة. الثاني: أن المراد ببهيمة الأنعام أجنة الأنعام. روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن بقرة ذبحت فوجد في بطنها جنين، فأخذ ابن عباس بذنبها وقال: هذا من بهيمة الأنعام. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنها أجنة الأنعام، وذكاته ذكاة أمه.
واعلم أن هذا الوجد يدل على صحة مذهب الشافعي رحمه الله في أن الجنين مذكى بذكاة الأم. المسألة الثانية: قالت الثنوية: ذبح الحيوانات إيلام، والإيلام قبيح، والقبيح لا يرضى به