إن كنتم صادقين * بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * اعلم أن هذا هو النوع الرابع من تخليط اليهود وإلقاء الشبه في قلوب المسلمين، واعلم أن اليهود لا تقول في النصارى: إنها تدخل الجنة، ولا النصارى في اليهود، فلا بد من تفصيل في الكلام فكأنه قال: وقالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى، ولا يصح في الكلام سواه، مع علمنا بأن كل واحد من الفريقين يكفر الآخر، ونظيره: * (قالوا كونوا هودا أو نصارى) * (البقرة: 135) والهود: جمع هائد، كعائذ وعوذ وبازل وبزل، فإن قيل: كيف قيل: كان هودا، على توحيد الاسم، وجمع الخبر؟ قلنا: حمل الاسم على لفظ (من) والخبر على معناه كقراءة الحسن: * (إلا من هو صال الجحيم) * (الصافات: 163) وقرأ أبي بن كعب: * (إلا من كان يهوديا أو نصرانيا) * أما قوله تعالى: * (تلك أمانيهم) * فالمراد أن ذلك متمنياتهم، ثم إنهم لشدة تمنيهم لذلك قدروه حقا في نفسه، فإن قيل: لم قال: * (تلك أمانيهم) * وقولهم: * (لن يدخل الجنة) * أمنية واحدة؟ قلنا: أشير بها إلى الأماني المذكورة، وهي أمنيتهم أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم، وأمنيتهم أن يردوهم كفارا، وأمنيتهم أن لا يدخل الجنة غيرهم، أي: تلك الأماني الباطلة أمانيهم، وقوله تعالى: * (قل هاتوا برهانكم) * متصل بقوله: * (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) * و * (تلك أمانيهم) * اعتراض، قال عليه الصلاة والسلام " الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني " وقال علي رضي الله عنه: " لا تتكل على المنى فإنها بضائع التولي ".
أما قوله تعالى: * (قل هاتوا برهانكم) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: هات: صوت بمنزلة هاء في معنى أحضر.
المسألة الثانية: دلت الآية على أن المدعي سواء ادعى نفيا، أو إثباتا، فلا بد له من الدليل والبرهان، وذلك من أصدق الدلائل على بطلان القول بالتقليد قال الشاعر:
من ادعى شيئا بلا شاهد * لا بد أن تبطل دعواه أما قوله تعالى: * (بلى) * ففيه وجوه. الأول: أنه إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة. الثاني: أنه تعالى لما نفى أن يكون لهم برهان أثبت أن لمن أسلم وجهه لله برهانا. الثالث: كأنه قيل لهم: أنتم على ما أنتم عليه لا تفوزون بالجنة، بلى إن غيرتم طريقتكم وأسلمتم وجهكم لله وأحسنتم فلكم الجنة، فيكون ذلك ترغيبا لهم في الإسلام، وبيانا لمفارقة حالهم لحال من يدخل الجنة لكي يقلعوا