والدلائل صاروا بمنزلة المدبر عما بين يديه فوصفوا بذلك كما قال تعالى: * (ثم أدبر واستكبر) * (المدثر: 23) وكما قال: * (كذب وتولى) * (طه: 48) وكل ذلك تشبيه.
أما قوله تعالى: * (وإن كانت) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: (إن) المكسورة الخفيفة، معناها على أربعة أوجه: جزاء، ومخففة من الثقيلة، وجحد، وزائدة، أما الجزاء فهي تفيد ربط إحدى الجملتين بالأخرى فالمستلزم هو الشرط واللازم هو الجزاء كقولك: إن جئتني أكرمتك، وأما الثانية: وهي المخففة من الثقيلة فهي تفيد توكيد المعنى في الجملة بمنزلة * (إن) * المشددة كقولك: إن زيدا لقائم، قال الله تعالى: * (إن كل نفس لما عليها حافظ) * (الطارق: 4) وقال: * (إن كان وعد ربنا لمفعولا) * (الإسراء: 108) ومثله في القرآن كثير، والغرض في تخفيفها إيلاؤها ما لم يجز أن يليها من الفعل، وإنما لزمت اللام هذه المخففة للعوض عما حذف منها، والفرق بينها وبين التي للجحد في قوله تعالى: * (إن الكافرون إلا في غرور) * (الملك: 20) وقوله: * (إن أتبع إلا ما يوحى إلي) * (الأحقاف: 9) إذ كانت كل واحدة منهما يليها الاسم والفعل جميعا كما وصفنا، وأما الثالثة: وهي التي للجحد، كقوله: * (إن الحكم إلا لله) * (الأنعام: 57) وقال: * (إن تتبعون إلا الظن) * (الأنعام: 148) وقال: * (ولئن زالتا إن أمسكهما) * (فاطر: 41) أي ما يمسكهما، وأما الرابعة وهي الزائدة فكقولك: ما إن رأيت زيدا.
إذا عرفت هذا فنقول: * (إن) * في قوله: * (وإن كانت لكبيرة) * (البقرة: 143) هي المخففة التي تلزمها اللام، والغرض منها توكيد المعنى في الجملة.
المسألة الثانية: الضمير في قوله: * (كانت) * إلى أي شيء يعود؟ فيه وجهان:
الأول: أنه يعود إلى القبلة لأنه لا بد له من مذكور سابق وما ذاك إلا القبلة في قوله: * (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها) * (البقرة: 143). الثاني: أنه عائد إلى ما دل عليه الكلام السابق وهي مفارقة القبلة، والتأنيث للتولية لأنه قال: * (ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها) * ثم قال عطفا على هذا: * (وإن كانت لكبيرة) * أي وإن كانت التولية لأن قوله: * (وما ولاهم) * يدل على التولية كما قيل في قوله تعالى: * (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق) * (الأنعام: 121) ويحتمل أن يكون المعنى: وإن كانت هذه الفعلة، نظيره قوله فيها ونعمت، واعلم أن هذا البحث متفرع على المسألة التي قدمناها وهي أن الامتحان والابتلاء حصل بنفس القبلة، أو بتحويل القبلة، وقد بينا أن الثاني أولى لأن الإشكال الحاصل بسبب النسخ أقوى من الإشكال الحاصل بسبب تلك الجهات، ولهذا وصفه الله تعالى بالكبيرة في قوله: * (وإن كانت لكبيرة) *.
أما قوله تعالى: * (لكبيرة) * فالمعنى: لثقيلة شاقة مستنكرة كقوله: * (كبرت كلمة تخرج من أفواههم) * (الكهف: 5) أي: عظمت الفرية بذلك، وقال الله تعالى: * (سبحانك هذا بهتان عظيم) * (النور: 16) وقال: * (إن ذلكم كان عند الله