العقوبات الثقيلة من دون نصره وتأييده وعونه، لهذا قالوا: ربنا افرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين.
والملفت للنظر أنهم بعبارة أفرغ علينا صبرا أظهروا أن الخطر المحدق بهم بلغ الدرجة القصوى، فأعطنا يا رب أنت - أيضا - آخر درجات الصبر والاستقامة، لأن " أفرغ " من مادة " الإفراغ " بمعنى صب السائل من وعاء حتى يفرغ.
3 الاستقامة الواعية:
يمكن أن يتملك الإنسان عجب شديد عند أول إطلاعة على قصة السحرة في زمان موسى (عليه السلام) الذين صاروا من المؤمنين الصادقين، هل يمكن أن يحدث مثل هذا الانقلاب والتحول العميق في الروح الإنسانية في مثل هذه المدة القصيرة، بحيث يقطع الشخص كل علاقاته مع الصف المخالف، ويصير في صف الموافق، ثم يدافع عن عقيدته الجديدة بإصرار وعناد عجيبين إلى درجة أنه يتجاهل مكانته ومصالحه وحياته جميعا، ويستقبل الشهادة بشجاعة منقطعة النظير، وبوجه مستبشر؟
ولكن هذا الاستغراب يتبدد إذا التفتنا إلى هذه النقطة، وهي أن هؤلاء - نظرا إلى سوابقهم الكثيرة في علم السحر - وقفوا جيدا على عظمة معجزة النبي موسى (عليه السلام) وحقانيته، وسلكوا هذا السبيل عن وعي كامل... وهذا الوعي صار منشأ لعشق ملتهب سربل كل وجودهم وكيانهم، وهو عشق لا يعرف حدا وسدا، وفوق جميع النوازع والرغبات البشرية.
إنهم كانوا يعلمون جيدا أي طريق يسلكونه؟ ولماذا يجاهدون؟ ومن يكافحون؟ وأي مستقبل مشرق ينتظر هذا الجهاد العظيم؟
أجل، إذا كان الإيمان مقرونا بالوعي الكامل فإنه ينتهي إلى مثل هذا العشق