الدولة، وتقرير شؤون المملكة، وتسريب الجيش، فإنهم لم يكونوا يرون التعبد به والالتزام في جميع الأحوال بالعمل على مقتضاه، بل جعلوا لأفكارهم مسرحا للبحث، ومجالا للنظر والاجتهاد، فكانوا إذا رأوا في خلافه، رفعا لكيانهم، أو نفعا في سلطانهم، ولعلهم كانوا يحرزون رضا النبي بذلك، وكان قد غلب على ظنهم أن العرب لا تخضع لعلي ولا تتعبد بالنص عليه، إذ وترها في سبيل الله، وسفك دماءها بسيفه في إعلاء كلمة الله، وكشف القناع منابذا لها في نصرة الحق، حتى ظهر أمر الله على رغم كل عاة كفور، فهم لا يطيعونه إلا عنوة، ولا يخضعون للنص عليه إلا بالقوة، وقد عصبوا به كل دم أراقه الاسلام أيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، جريا على عادتهم في أمثال ذلك، إذ لم يكن بعد النبي في عشيرته صلى الله عليه وآله وسلم، أحد يستحق أن تعصب به تلك الدماء عند العرب غيره، لأنهم إنما كانوا يعصبونها في أمثل العشيرة، وأفضل القبيلة، وقد كان هو أمثل الهاشميين، وأفضلهم بعد رسول الله، لا يدافع ولا ينازع في ذلك، ولذا تربص العرب به الدوائر، وقلبوا له الأمور، وأضمروا له ولذريته كل حسيكة، ووثبوا عليهم كل وثبة، وكان ما كان مما طار في الأجواء، وطبق رزؤه الأرض والسماء.
وأيضا فإن قريشا خاصة والعرب عامة كانت تنقم من علي شدة وطأته على أعداء الله، ونكال وقعته فيمن يتعدى حدود الله، أو يهتك حرماته عز وجل، وكانت ترهب من أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وتخشى عدله في الرعية، ومساواته بين الناس في كل قضية، ولم يكن لأحد فيه مطمع، ولا عنده لأحد هوادة، فالقوي العزيز عنده ضعيف ذليل حتى يأخذ منه الحق، والضعيف الذليل عنده قوي عزيز حتى يأخذ له بحقه، فمتى تخضع الأعراب طوعا لمثله * (وهم أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله) * (843) * (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم) * (844) وفيها بطانة لا يألونهم خبالا.