العقليين إلى آخر كلامكم في هذا الموضوع وأنا أربابكم عن هذا القول، فإنه شبيه بقول السوفسطائية الذين ينكرون الحقائق المحسوسة، لأن من الأفعال ما نعلم بحسنه، وترتب الثناء والثواب على فعله، لصفة ذاتية له قائمة به، كالأحسن والعدل من حيث هما إحسان وعدل ومنها ما نعلم بقبحه وترتب الذم والعقاب على فعله لصفته الذاتية القائمة به، كالإساءة والجور من حيث هما إساءة وجور، والعاقل يعلم أن ضرورة قاضية بذلك، وليس جزم العقلاء بهذا أقل من جزمهم بكون الواحد نصف الاثنين، والبداهة الأولية قاضية بالفرق بين من أحسن إليك دائما، وبين من أساء إليك دائما، إذ يستقل العقل بحسن فعل الأول معك، واستحقاقه للثناء والثواب منك، وقبح فعل الثاني واستحقاقه للذم والقصاص، والمشكك في ذلك مكابر لعقله، ولو كان الحسن والقبح فيما ذكرناه شرعيين، لما حكم بهما منكر والشرائع كالزنادقة والدهرية، فإنهم مع إنكارهم الأديان يحكمون بحسن العدل والاحسان، ويرتبون عليهما ثناءهم وثوابهم، ولا يرتابون في قبح الظلم والعدوان، ولا في ترتيب الذم والقصاص على فعلهما، ومستندهم في هذا إنما هو العقل لا غير، فدع عنك قول من يكابر العقل والوجدان، وينكر ما علمه العقلاء كافة، ويحكم بخلاف ما تحكم به فطرته التي فطر عليها، فإن الله سبحانه فطر عباده على إدراك بعض الحقائق بعقولهم كما فطرهم على الادراك بحواسهم ومشاعرهم، ففطرتهم توجب أن يدركوا بعقولهم حسن العدل ونحوه، وقبح الظلم ونحوه، كما يدركون بأذواقهم حلاوة العسل ومرارة العلقم، ويدركون بمشامهم طيب المسك ونتن الجيف، ويدركون بملامسهم لين اللين وخشونة الخشن، ويمييزون بأبصارهم بين المنظرين الحسن والقبيح، وبأسماعهم بين الصوتين: صوت المزامير وصوت الحمير، تلك فطرة الله * (التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) * (795).
وقد أراد الأشاعرة أن يبالغوا في الإيمان بالشرع والاستسلام لحكمه،