الرجل ومصداق هذه القراءة انه اجتمع في الكلام عاملان أحدهما قوله فاغسلوا والثاني حرف الجر وهو الباء في قوله برؤوسكم والباء أقرب فكان الخفض أولى ومن قال بالتخيير يقول إن القراءتين قد ثبت كون كل واحدة منهما قرآنا وتعذر الجمع بين موجبيهما وهو وجوب المسح والغسل إذ لا قائل به في السلف فيخير المكلف ان شاء عمل بقراءة النصب فغسل وان شاء بقراءة الخفض فمسح وأيهما فعل يكون اتيانا بالمفروض كما في الامر بأحد الأشياء الثلاثة ومن قال بالجمع يقول القراءتان في آية واحدة بمنزلة آيتين فيجب العمل بهما جميعا ما أمكن وأمكن ههنا لعدم التنافي إذ لا تنافى بين الغسل والمسح في محل واحد فيجب الجمع بينهما (ولنا) قراءة النصب وانها تقتضي كون وظيفة الأرجل الغسل لأنها تكون معطوفة على المغسولات وهي الوجه واليدان والمعطوف على المغسول يكون مغسولا تحقيقا لمقتضى العطف وحجة هذه القراءة وجوه أحدها ما قاله بعض مشايخنا ان قراءة النصب محكمة في الدلالة على كون الأرجل معطوفة على المغسولات وقراءة الخفض محتملة لأنه يحتمل انها معطوفة على الرؤس حقيقة ومحلها من الاعراب الخفض ويحتمل أنها معطوفة على الوجه واليدين حقيقة ومحلها من الاعراب النصب الا أن خفضها للمجاور قوا عطاء الاعراب بالمجاورة طريقة شائعة في اللغة بغير حائل وبحائل اما بغير الحائل فكقولهم حجر ضب خرب وماء شن بارد والخرب نعت الحجر لا نعت الضب والبرودة نعت الماء لا نعت الشن ثم خفض لمكان المجاورة وأما مع الحائل فكما قال تعالى يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق إلى قوله وحور عين لأنهن لا يطاف بهن وكما قال الفرزدق فهل أنت ان ماتت أنانك راكب * إلى آل بسطام بن قيس فخاطب فثبت ان قراءة الخفض محتملة وقراءة النصب محكمة فكان العمل بقراءة النصب أولى الا أن في هذا اشكالا وهو أن هذا الكلام في حد التعارض لان قراءة النصب محتملة أيضا في الدلالة على كون الأرجل معطوفة على اليدين والرجلين لأنه يحتمل انها معطوفة على الرأس والمراد بها المسح حقيقة لكنها نصبت على المعنى لا على اللفظ لان الممسوح به مفعول به فصار كأنه قال تعالى وامسحوا برؤوسكم والاعراب قد يتبع اللفظ وقد يتبع المعنى كما قال الشاعر معاوى اننا بشر فاسجح * فسلنا بالجبال ولا الحديدا نصب الحديد عطفا على الجبال بالمعنى لا باللفظ معناه فلسنا الجبال ولا الحديد فكانت كل واحدة من القراءتين محتملة في الدلالة من الوجه الذي ذكرنا فوقع التعارض فيطلب الترجيح من جانب آخر وذلك من وجوه أحدها ان الله تعالى مد الحكم في الا رجل إلى الكعبين ووجوب المسح لا يمتد إليهما والثاني أن الغسل يتضمن المسح إذا الغسل إسالة والمسح إصابة وفي الإسالة إصابة وزيادة فكان ما قلناه عملا بالقراءتين معا فكان أولى والثالث أنه قد روى جابر وأبو هريرة وعائشة وعبد الله بن عمر وغيرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قوما تلوح أعقابهم لم يصبها الماء فقال ويل للأعقاب من النار أسبغوا الوضوء وروى أنه توضأ مرة مرة وغسل رجليه وقال هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة الا به ومعلوم أن قوله ويل للأعقاب من النار وعيد لا يستحق الا بترك المفروض وكذا نفى قبول صلاة من لا يغسل رجليه في وضوئه فدل ان غسل الرجلين من فرائض الوضوء وقد ثبت بالتواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم غسل رجليه في الوضوء لا يجحده مسلم فكان قوله وفعله بيان المراد بالآية فثبت بالدلائل المتصلة والمنفصلة أن الا رجل في الآية معطوفة على المغسول لا على الممسوح فكان وظيفتها الغسل لا المسح على أنه ان وقع التعارض بين القراءتين فالحكم في تعارض القراءتين كالحكم في تعارض الآيتين وهو انه ان أمكن العمل بهما مطلقا يعمل وان لم يمكن للتنافي يعمل بهما بالقدر الممكن وههنا لا يمكن الجمع بين الغسل والمسح في عضو واحد في حالة واحدة لأنه لم يقل به أحد من السلف ولأنه يؤدى إلى تكرار المسح لما ذكرنا أن الغسل يتضمن المسح والامر المطلق لا يقتضى التكرار فيعمل بهما في الحالتين فتحمل قراءة النصب على ما إذا كانت الرجلان باديتين وتحمل قراءة الخفض على ما إذا كانتا مستورتين بالخفين توفيقا بين القراءتين وعملا بهما
(٦)