ويكره للقاضي أن يتخذ حاجبا كما قال: (لا حاجب له) أي للقاضي (دونهم) أي الخصوم أي حيث لا زحمة وقت الحكم لخبر: من ولي من أمور الناس شيئا فاحتجب حجبه الله يوم القيامة رواه أبو داود والحاكم بإسناد صحيح، فإن لم يجلس للحكم بأن كان في وقت خلوته أو كان ثم زحمة لم يكره نصبه والبواب وهو من يقعد بالباب للاحراز ويدخل على القاضي للاستئذان كالحاجب فيما ذكر. قال الماوردي: أما من وظيفته ترتيب الخصوم والاعلام بمنازل الناس أي وهو المسمى الآن بالنقيب فلا بأس باتخاذه، وصرح القاضي أبو الطيب وغيره باستحبابه.
تنبيه: من الآداب أن يجلس على مرتفع: كدكة ليسهل عليه النظر إلى الناس وعليهم المطالبة وأن يتميز عن غيره بفراش ووسادة، وإن كان مشهورا بالزهد والتواضع ليعرفه الناس وليكون أهيب للخصوم وأرفق به فلا يمل وأن يستقبل القبلة لأنها أشرف المجالس كما رواه الحاكم وصححه.
وأن لا يتكئ بغير عذر وأن يدعو عقب جلوسه بالتوفيق والتسديد. والأولى ما روته أم سلمة: أن النبي (ص) كان إذا خرج من بيته قال: بسم الله توكلت على الله اللهم إني أعوذ بك من أن أضل، أو أضل، أو أزل أو أزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي قال: في الأذكار حديث حسن رواه أبو داود. قال ابن القاص: وسمعت أن الشعبي كان يقوله إذا خرج إلى مجلس القضاء ويزيد فيه: أو أعتدي أو يعتدى علي، اللهم أعني بالعلم وزيني بالحلم وأكرمني بالتقوى حتى لا أنطق إلا بالحق ولا أقضي إلا بالعدل. وأن يأتي المجلس راكبا وأن يستعمل ما جرت به العادة من العمامة والطيلسان، ويندب أن يسلم على الناس يمينا وشمالا، وأن يشاور الفقهاء عند اختلاف وجوه النظر وتعارض الأدلة في حكم قال تعالى لنبيه (ص): * (وشاورهم في الامر) * قال الحسن البصري: كان (ص) مستغنيا عنها، ولكن أراد أن تكون سنة للحكام. أما الحكم المعلوم بنص أو إجماع أو قياس جلي فلا. والمراد بالفقهاء كما قاله جمع من الأصحاب الذين يقبل قولهم في الافتاء فيدخل الأعمى والعبد والمرأة، ويخرج الفاسق والجاهل (ولا يقعد للقضاء في المسجد) أي يكره له اتخاذه مجلسا للحكم صونا له عن ارتفاع الأصوات واللغط الواقعين بمجلس القضاء عادة. ولو اتفقت قضية أو قضايا وقت حضوره فيه لصلاة أو غيرها فلا بأس بفصلها، وعلى ذلك يحمل ما جاء عنه (ص) وعن خلفائه في القضاء في المسجد وكذا إذا احتاج لجلوس فيه لعذر من مطر ونحوه. فإن جلس فيه مع الكراهة أو دونها منع الخصوم من الخوض فيه، بالمخاصمة والمشاتمة ونحوهما. بل يقعدون خارجه وينصب من يدخل عليه خصمين وإقامة الحدود فيه أشد كراهة كما نص عليه. ثم شرع في التسوية بين الخصمين فقال: (ويسوي) أي القاضي (بين الخصمين) وجوبا على الصحيح (في ثلاثة) بل سبعة (أشياء) كما ستعرفه: الأول (في المجلس) فيسوي بينهما فيه بأن يجلسهما بين يديه أو أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره والجلوس بين يديه أولى ولا يرتفع الموكل عن الوكيل، والخصم لأن الدعوى متعلقة به أيضا بدليل تحليفه إذا وجبت يمين حكاه ابن الرفعة عن الزبيلي وأقره، قال الأذرعي وغيره وهو حسن والبلوى به عامة وقد رأينا من يوكل قرارا من التسوية بينه وبين خصمه، والصحيح جواز رفع مسلم على ذمي في المجلس كأن يجلس المسلم أقرب إليه من الذمي، لما روى البيهقي عن الشعبي قال: خرج علي رضي الله تعالى عنه إلى السوق.
فإذا هو بنصراني يبيع درعا فعرفها علي فقال: هذه درعي بيني وبينك قاضي المسلمين فأتيا إلى القاضي شريح فاما رأى القاضي عليا قام من مجلسه وأجلسه. فقال له علي: لو كان خصمي مسلما لجلست معه بين يديك ولكني سمعت النبي (ص) يقول: لا تساووهم في المجالس اقض بيني وبينه. فقال شريح: ما تقول يا نصراني؟