ومن الواضح أن هذه الصور الحاصلة المنطبعة بخصوصياتها في محل مادي مباينة للماهيات الخارجية، فلا مسوغ للقول بالوجود الذهني وحضور الماهيات الخارجية بأنفسها في الأذهان.
وجه الاندفاع: أن ما ذكروه - من الفعل والانفعال الماديين عند حصول العلم بالجزئيات - في محله، لكن هذه الصور المنطبعة ليست هي المعلومة بالذات، وإنما هي أمور مادية معدة للنفس تهيئها لحضور الماهيات الخارجية عندها بصور مثالية مجردة غير مادية بناء على ما سيتبين من تجرد العلم مطلقا (1)، وقد عرفت أيضا (2) أن القول بمغايرة الصور عند الحس والتخيل لذوات الصور التي في الخارج لا ينفك عن السفسطة.
الأمر الثالث: أنه لما كانت الماهيات الحقيقية التي تترتب عليها آثارها في الخارج هي التي تحل الأذهان بدون ترتب آثارها الخارجية، فلو فرض هناك أمر حيثية ذاته عين أنه في الخارج ونفس ترتب الآثار كنفس الوجود العيني وصفاته القائمة به كالقوة والفعل والوحدة والكثرة ونحوها، كان ممتنع الحصول بنفسها في الذهن، وكذا لو فرض أمر حيثية ذاته المفروضة حيثية البطلان وفقدان الآثار كالعدم المطلق وما يؤول إليه، امتنع حلوله الذهن.
فحقيقة الوجود وكل ما حيثية ذاته حيثية الوجود، وكذا العدم المطلق وكل ما حيثية ذاته المفروضة حيثية العدم يمتنع أن يحل الذهن حلول الماهيات الحقيقية.
وإلى هذا يرجع معنى قولهم: (إن المحالات الذاتية لا صورة صحيحة لها في الأذهان).
وسيأتي إن شاء الله بيان كيفية انتزاع مفهوم الوجود وما يتصف به والعدم وما يؤول إليه في مباحث العقل والعاقل والمعقول (3).