بتعاليمه القيمة بينهما، مؤالفة تفي بحق كل منهما، بحيث يتيح للإنسان أن يأخذ قسطه من كل منهما بقدر ما تقتضيه المصلحة.
وذلك أن المسيحية غالت في التوجه إلى الناحية الروحية، حتى كادت أن تجعل كل مظهر من مظاهر الحياة المادية خطيئة كبرى، فدعت إلى الرهبانية والتعزب وترك ملاذ الحياة والانعزال عن المجتمع، والعيش في الأديرة وقلل الجبال وتحمل الظلم والرفق مع المعتدين، كما غالت اليهودية في الانكباب على المادة حتى نسيت كل قيمة روحية وجعلت الحصول على المادة بأي وسيلة كانت، المقصد الأسنى، ودعت إلى القومية الغاشمة والطائفية الممقوتة.
وهذه المبادئ سواء أصحت عن الكليم والمسيح (عليهما السلام) أم لم تصح (ولن تصح إلا أن يكون لإصلاح انغمار الشعب الإسرائيلي في ملاذ الحياة يوم ذاك وإنجائهم عن التوغل في الماديات وسحبهم إلى المعنويات بشدة وعنف وإن شئت قلت: كانت تعاليمه إصلاحا مؤقتا لإسراف اليهود وغلوهم في عبادة المال حتى أفسدوا أخلاقهم، وآثروا دنياهم على دينهم) هذه المبادئ لا تتماشى مع الحضارات الإنسانية التقدمية ولا تسعدها في معترك الحياة، ولا تتلاءم مع حكم العقل ولا الفطرة السليمة.
لكن الإسلام جاء لينظر إلى واقع الإنسان، بما هو كائن، لا غنى له عن المادة، ولا عن الحياة الروحية، فأولاهما عنايته، ودعا إلى المادة والالتذاذ بها بشكل لا يضر الحياة الروحية كما دعا إلى الحياة الروحية بشكل لا تصادم فطرته وطبيعته.
هذه هي حقيقة الإسلام ومرونته وسبب تماشيه مع الحضارات المختلفة حتى حضارة اليوم الصناعية، فلو حددنا الجائزة من العاديات بما في عصر النبي تكون النتيجة حياد الإسلام عن الساحة، وبطلانه مع أنه خاتم الشرائع وكتابه خاتم الكتب ونبيه خاتم النبيين.