بلغة الفقيه - السيد محمد بحر العلوم - ج ٣ - الصفحة ٦٢
واطلاق الحلي بتقديم المنجز مطلقا " على الدين مبني على أصله: من عدم العمل بأخبار الآحاد " (1)
(١) الخبر الواحد: هو غير البالغ درجة التواتر المفيد للقطع، وإن تعددت رواته.
وهو نوعان: منه ما يفيد القطع، وإن كان مخبره واحدا "، كما إذا احتف بقرائن تفيد اليقين بصدوره، وهذا النوع مما لا شك في حجيته لا لذاته بل لانتهائه إلى القطع المفروض الحجية ومنه ما ليس بتلك الدرجة من إفادة القطع. وفي حجية مثل هذا النوع من الخبر الواحد وعدمها وقع الخلاف بين السيد المرتضى وأتباعه والشيخ الطوسي وأتباعه، فأنكر السيد حجيته إذا لم يكن محفوفا " بقرائن تدل على صحته، وتبعه من الخاصة: القاضي ابن البراح، وأبو المكارم ابن زهرة. والطبرسي صاحب المجمع، وابن إدريس الحلي صاحب السرائر، وغيرهم. ومن العامة: ابن علبة، والأصم، والقاشاني من أهل الظاهر، وغيرهم.
وقال شيخ الطائفة الطوسي بحجيته، وإن لم يفد العلم ولم يكن محفوظا " بقرائن تدل على صحته، وعليه عامة الفقهاء المتأخرين من الإمامية.
وربما نسب القول بالحجية أيضا " إلى كثير من العامة كابن شريح والحسن البصري والصيرفي من الشافعية وأحمد بن حنبل، وداود الظاهري، والحسين الكرابيسي، وحكى ذلك عن مالك بن أنس أيضا " كما ذكر ذلك ابن حزم في الأحكام.
وفي الحقيقة: إن مركز الخلاف بين الفريقين في وجود الدليل على الجواز وعدمه، فالمنكر كفريق السيد المرتضى علم الهدى ينكر وجود الدليل القطعي على الحجية. والقائل بالحجية كفريق الشيخ الطوسي يرى قيام الدليل على ذلك.
فالخلاف ليس في حجية الخبر غير المفيد للعلم وعدم الحجية. وإنما في قيام الدليل على الحجية وعدمه، فهو صغروي في الحقيقة مع اعتراف كل من الفريقين بحجية الخبر المفيد للعلم.
وكل من الفريقين يعضد رأيه بالأدلة الأربعة، الكتاب والسنة والاجماع والعقل، وبالمؤيدات الكثيرة، ولا يسع المجال لاستعراضها ومناقشتها وابن إدريس الحلي من مؤيدي السيد المرتضى في انكار حجية الخبر الواحد غير المفيد للعلم كما في المتن ولكن الذي يستعرض أدلة الفريقين ويستوعب المسألة درسا " وتحقيقا " في مظانها من كتب أصول الفقه للعامة والخاصة، لا يجد بدا " من موافقة الشيخ الطوسي من القول بحجية الخبر الواحد بحد ذاته وإن لم يفد القطع، وذلك لكثرة الآيات الواردة في هذا الخصوص كمفهوم آية النبأ، ومنطوق آية النفر، وآية حرمة الكتمان، وآية الذكر.
وكذلك لورود السنة النبوية عملا وقولا في ذلك: فمن العملية ما تواتر نقله من إنفاذ رسول الله صلى الله عليه وآله أمرائه وقضاته ورسله وسعاته إلى الأطراف وهم آحاد لقبض الصدقات وحل العهود وتقريرها وتبليغ الأحكام، وذلك يدل بالملازمة على حجية أقوالهم ووجوب الأخذ منهم، ومن القولية: روايات متواترة لفظا " ومضمونا "، استعرضتها عامة كتب الأصول وقد ذكرت منها طوائف كثيرة، منها ما ورد في مقام الترجيح بين الخبرين المتعارضين بالأعدل والأشهر والأصدق والقول بالتخيير عند التساوي، ومنها ما ورد في ارجاع آحاد الرواة إلى آحاد أصحاب الأئمة عليهم السلام، ومنها ما دل على وجوب الرجوع إلى الرواة والثقاة والعلماء، ومنها ما دل على الترغيب في كتابة الروايات وحفظها وبثها. ومنها ما دل على ذم الكذب والتحذير من الكذابين والوضاعين. ومنها ما ورد في تسويغ الرجوع إلى أمثال كتب الشلمغاني وبني فضال، ونحوهم من المنحرفين في الرأي، الصدوقين في النقل، إلى غير ذلك من طوائف الروايات التي يستفاد من مجموعها رضى الأئمة عليهم السلام، بل رغبتهم بالعمل بالخبر الواحد، وإن لم يفد القطع هكذا في رسائل الشيخ الأنصاري وكفاية الآخوند وغيرهما من كتب الأصول وأما دعاوي الاجماع على العمل بالخبر الواحد مطلقا "، فقد تواترت باستمرار على ألسنة عموم الفقهاء منذ عهد الشيخ إلى اليوم.
وأما دليل العقل واستقراء طريقة العقلاء في ذلك، فعن الحجة النائيني كما في تقريرات تلميذه الكاظمي قدس سرهما قوله: " وأما طريقة العقلاء، فهي عمدة أدلة الباب بحيث لو فرض أنه كان سبيل إلى المناقشة في بقية الأدلة فلا سبيل إلى المناقشة في الطريقة العقلائية القائمة على الاعتماد على خبر الثقة والاتكال عليه في محاوراتهم ".
وأخيرا "، نقول إن من يستعرض المسألة في مظانها من كتب أصول الفريقين: الخاصة والعامة، ويتأمل في أدلة الطرفين، لا يجد مناصا " إلا الاعتراف بحجية العمل بالخبر الواحد أفاد العلم أم لم يفد.
ولزيادة التفصيل في هذا الموضوع يراجع بابه من كتب الأصول للفريقين ككفاية الآخوند ورسائل الأنصاري وإرشاد الفحول والأحكام لابن حزم وغيرها.