ثم يزول ما كان منها، كما يزول السراب، فمشيت عند ذلك إلى أبي بكر فبايعته، ونهضت معه في تلك الأحداث، حتى زهق الباطل، وكانت كلمة الله هي العليا، وأن يرغم الكافرون، فتولى أبو بكر رضي الله عنه تلك الأمور فيسر، وسدد، وقارب، واقتصد، فصحبته مناصحا، وأطعته فيما أطاع الله فيه جاهدا، فلما احتضر بعث إلى عمر، فولاه، فسمعنا وأطعنا، وبايعنا وناصحنا، فتولى تلك الأمور، فكان مرضي السيرة، ميمون النقيبة (1) أيام حياته، فلما احتضر قلت في نفسي: ليس يصرف هذا الأمر عني. فجعلها عمر شورى وجعلني سادس ستة، فما كانوا لولاية أحد منهم بأكره منهم لولايتي، لأنهم كانوا يسمعونني وأنا أحاج أبا بكر فأقول:
يا معشر قريش، أنا أحق بهذا الأمر منكم ما كان منا من يقرأ القرآن، ويعرف السنة، فخشوا إن وليت عليهم أن لا يكون لهم في هذا الأمر نصيب، فبايعوا إجماع رجل واحد، حتى صرفوا الأمر عني لعثمان، فأخرجوني منها، رجاء أن يتداولوها. حين يئسوا أن ينالوها، ثم قالوا لي: هلم فبايع عثمان، وإلا جاهدناك. فبايعت مستكرها. وصبرت محتسبا، وقال قائلهم:
إنك يا ابن أبي طالب على الأمر لحريص، قلت لهم: أنتم أحرص. أما أنا إذ طلبت ميراث ابن أبي وحقه، وأنتم إذ دخلتم بيني وبينه، وتضربون وجهي دونه، اللهم إني أستعين بك على قريش، وأنهم قطعوا رحمي، وصغروا عظيم منزلتي وفضلي، واجتمعوا على منازعتي حقا كنت أولى به منهم فسلبونيه، ثم قالوا: اصبر كمدا، وعش متأسفا، فنظرت فإذا ليس معي رفاق ولا مساعد إلا أهل بيتي، فضننت بهم على الهلاك، فأغضيت عيني على القذى، وتجرعت رفيق على الشجا (1). وصبرت من كظم الغيظ على أمر من العلقم طعما، وآلم للقلب من حز الحديد، حتى إذا نقمتم على عثمان أتيتموه فقتلتموه، ثم جئتموني تبايعونني، فأبيت عليكم، وأبيتم علي، فنازعتموني ودافعتموني، ولم أمد يدي، تمنعا عنكم، ثم ازدحتم علي، حتى ظننت أن بعضكم قاتل بعض، وأنكم قاتلي، وقلتم: لا نجد غيرك، ولا نرضى إلا بك، فبايعنا لا نفترق ولا نختلف، فبايعتكم ودعوتم الناس إلى بيعتي، فمن بايع طائعا قبلت منه، ومن أبى تركته، فأول من بايعني طلحة والزبير، ولو أبيا ما أكرهتهما، كما لم أكره غيرهما، فما لبثا إلا يسيرا حتى قيل لي: قد خرجا متوجهين إلى البصرة في جيش، ما منهم رجل إلا وقد أعطاني الطاعة، وسمح لي بالبيعة، فقاموا على عمالي بالبصرة وخزائن بيوت أموالي، وعلى أهل مصري، وكلهم في طاعتي، وعلى شيعتي، فشتتوا كلمتهم، وأفسدوا علي جماعتهم، ثم وثبوا