وقلت فيما قلت: متى تكدني أكدك، فكدني يا معاوية فيما بدا لك، فلعمري لقديما يكاد الصالحون، وإني لأرجو أن لا تضر إلا نفسك، ولا تمحق إلا عملك، فكدني ما بدا لك، واتق الله يا معاوية، واعلم أن لله كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. واعلم أن الله ليس بناس لك قتلك بالظنة، وأخذك بالتهمة، وإمارتك صبيا يشرب الشراب (1)، ويلعب بالكلاب، ما أراك إلا وقد أوبقت نفسك، وأهلكت دينك، وأضعت الرعية والسلام.
قدوم معاوية المدينة على هؤلاء القوم وما كان بينهم من المنازعة قال وذكروا أنه لما وجاوب القوم معاوية بما جاوبوه، من الخلاف لأمره، والكراهية لبيعته ليزيد، كتب إلى سعيد بن العاص، يأمره أن يأخذ أهل المدينة بالبيعة ليزيد، أخذا بغلظة وشدة، ولا يدع أحدا من المهاجرين والأنصار وأبنائهم حتى يبايعوا، وأمره أن لا يحرك هؤلاء النفر، ولا يهيجهم. فلما قدم عليه كتاب معاوية أخذهم بالبيعة أعنف ما يكون من الأخذ وأغلظه، فلم يبايعه أحد منهم. فكتب إلى معاوية: إنه لم يبايعني أحد، وإنما الناس تبع لهؤلاء النفر، فلو بايعوك بايعك الناس جميعا، ولم يتخلف عنك أحد. فكتب إليه معاوية يأمره أن لا يحركهم إلى أن يقدم، فقدم معاوية المدينة حاجا، فلما أن دنا من المدينة خرج إليه الناس يتلقونه، ما بين راكب وماش، وخرج النساء والصبيان، فلقيه الناس على حال طاقتهم وما تسارعوا به في الفوت والقرب، فلان لمن كافحه، وفاوض العامة بمحادثته وتألفهم جهده، مقاربة ومصانعة، ليستميلهم إلى ما دخل فيه الناس، حتى قال في بعض ما يجتلبهم به:
يا أهل المدينة ما زلت أطوى الحزن من وعثاء السفر بالحب لمطالعتكم، حتى انطوى البعيد، ولأن الخشن، وحق لجار رسول الله أن يتاق إليه.
فرد عليه القوم: بنفسك ودارك ومهاجرك، أما إن لك منهم كإشفاق الحميم البر (2)، والحفي المتعاهد.