عليه وسلم الشهباء، ثم تعصب بعمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم السوداء، ثم نادى: من يبع نفسه اليوم يربح غدا، يوم له ما بعده، وإن عدوكم قد قدح كما قدحتم. فانتدب له ما بين عشرة آلاف إلى اثنى عشر ألفا واضعي سيوفهم على عواتقهم وتقدموا، فحمل علي والناس حملة واحدة، فلم يبق لأهل الشام صف إلا أهمد، حتى أفضى الأمر إلى معاوية، وعلي يضرب بسيفه، ولا يستقبل أحدا إلا ولى عنه. فدعا معاوية بفرسه لينجو عليه، فلما وضع رجله في الركاب نظر إلى عمرو بن العاص، فقال له: يا بن العاص، اليوم صبر، وغدا فخر، قال: صدقت، فترك الركوب، وصبر وصبر القوم معه إلى الليل، فبات الناس يتحارسون، وكرهوا القتال، وهو اليوم الذي فيه البلاء العظيم، يوم قتل عمار، وكل يظن أن الدائرة عليه، وأسرف الفريقان في القتل، ولم يكن في الإسلام بلاء ولا قتل أعظم منه في تلك الثلاثة الأيام، وإن عليا نادى بالرحيل في جوف الليل، فلما سمع معاوية رضي الله عنه رغاء الإبل، دعا عمرو بن العاص، فقال: ما ترى ها هنا؟ قال عمرو: أظن الرجل هاربا، فلما أصبحوا إذا علي وأصحابه إلى جانبهم قد خالطوهم، فقال معاوية: كلا، زعمت يا عمرو أنه هارب، فضحك وقال: من فعلاته والله، فعندها أيقن معاوية بالهلكة، ونادي أهل الشام: كتاب الله بيننا وبينكم، ويومئذ استبان ذل أهل الشام، ورفعوا المصاحف، ثم ارتحلوا فاعتصموا بجبل منيف، وصاحوا: لا ترد كتاب الله يا أبا الحسن فإنك أولى به منا، وأحق من أخذ به.
ما قال الأشعث بن قيس قال: فأقبل الأشعث بن قيس في أناس كثير من أهل اليمن، فقالوا لعلي: لا ترد ما دعاك القوم إليه، قد أنصفك القوم، والله لئن لم تقبل هذا منهم لا وفاء معك، ولا نرمي معك بسهم ولا حجر، ولا نقف معك موقفا.
ما قال القراء قال: فلما سمع علي قول الأشعث ورأى حال الناس قبل القضية، وأجاب إلى الصلح، وقام إلى علي أناس، وهم القراء منهم عبد الله بن وهب الراسبي في أناس كثير قد اخترطوا سيوفهم، ووضعوها على عواتقهم، فقالوا لعلي: اتق الله، فإنك قد أعطيت العهد وأخذته منا، لنفنين أنفسنا أو لنفنين عدونا، أو يفئ إلى أمر الله، وإنا نراك قد ركبت إلى أمر فيه الفرقة والمعصية لله، والذل في الدنيا، فانهض بنا إلى عدونا، فلنحاكمه إلى الله بسيوفنا. حتى يحكم الله بيننا وبينهم، وهو خير الحاكمين، لا حكومة الناس.