قد أذنت لك، فكن من أمرك على ما بدا لك. فقام عمار فقال: معاذ الله يا مغيرة تقعد أعمى بعد أن كنت بصيرا. يغلبك من غلبته، ويسبقك من سبقته، أنظر ما ترى وما تفعل، فأما أنا فلا أكون إلا في الرعيل الأول. فقال له المغيرة، يا أبا اليقظان. إياك أن تكون كقاطع السلسلة: فر من الضحل (1) فوقع في الرمضاء (2). فقال علي لعمار: دعه، فإنه لن يأخذ من الآخرة إلا ما خالطته الدنيا، أما والله يا مغيرة إنها المثوبة المؤدية، تؤدي من قام فيها إلى الجنة، ولما اختار بعدها، فإذا غشيناك فنم في بيتك. فقال المغيرة: أنت والله يا أمير المؤمنين أعلم مني، ولئن لم أقاتل معك لا أعين عليك، فإن يكن ما فعلت صوابا فإياه أردت، وإن يكن خطأ فمنه نجوت، ولي ذنوب كثيرة، لا قبل لي بها إلا الاستغفار منها.
خطبة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: وذكروا أن البيعة لما تمت بالمدينة، خرج علي إلى المسجد الشريف، فصعد المنبر، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ووعد الناس من نفسه خيرا، وتألفهم جهده، ثم قال: لا يستغني الرجل وإن كان ذا مال وولد عن عشيرته، ودفاعهم عنه بأيديهم وألسنتهم. هم أعظم الناس حيطة من ورائه، وإليهم سعيه وأعطفهم عليه إن أصابته مصيبة، أو نزل به بعض مكاره الأمور، ومن يقبض يده عن عشيرته فإنه يقبض عنهم يدا واحدة، وتقبض عنه أيد كثيرة، ومن بسط يده بالمعروف ابتغاء وجه الله تعالى، يخلف الله له ما أنفق في دنياه، ويضاعف له في آخرته، واعلموا أن لسان صدق يجعله الله للمرء في الناس، خير له من المال، فلا يزدادن أحدكم كبرياء، ولا عظمة في نفسه، ولا يغفل أحدكم عن القرابة أن يصلها، بالذي لا يزيده إن أمسكه، ولا ينقصه إن أهلكه. واعلموا أن الدنيا قد أدبرت، والآخرة قد أقبلت، ألا وإن المضمار (3) اليوم، والسبق (4) غدا. ألا وإن السبقة (5) الجنة. والغاية النار، ألا إن الأمل يشهي القلب، ويكذب الوعد، ويأتي بغفلة، ويورث حسرة فهو غرور، وصاحبه في عناء، فافزعوا إلى قوام دينكم، وإتمام صلاتكم، وأداء زكاتكم، والنصيحة لإمامكم، وتعلموا كتاب الله، واصدقوا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوفوا