ساخاو كتب أبي الريحان فخرج عنه بهذه النتيجة التي ذكرها: أن البيروني أعظم عقلية عرفها التاريخ الاسلامي وقال أيضا أن اللذين كتبوا عن الهند قبل البيروني تعد كتبهم كتب أطفال لم يتقنوا عملهم وقال لقد درس أبو الريحان اللغة الهندية في مدة قصيرة لا تتسنى لأحد في عصرنا في دراسة هذه اللغة السنسكريتية الصعبة ولم يوجد أحد من علماء المسلمين درس لغة وثنية محضا للعلم غير أبي الريحان. ولا أريد أن أطيل الكلام في هذه الناحية الواسعة فأبو الريحان نابغة من نوابغ العالم الاسلامي في العصر العباسي وداهية من دواهي التفكير البشري والمتتبع لأبحاثه التي وضعها في فنون شتى والتي ضمنها خيرة الآراء العلمية حينذاك في الفلك والطبيعيات والفلسفة وغيرها يعده من أعظم ما أنتجت أرض خوارزم في تلك العصور وإنك إذا تتبعت تطور هذه العلوم بعده ترى أمثال الفخر الرازي والخواجة نصير الطوسي ومحمد بن مسعود الغزنوي وأبي الخير الرازي وغيرهم قد تغذوا بمائدته الغذاء الكافي ولم يفتهم حتى فتات المائدة. ولم تقتصر علومه على الرياضيات والفلك والفلسفة والنجوم بل تناول الأدب والتاريخ وأخص بتدوين الأخبار الهندية. ومع أن البيروني كتب أغلب كتبه بالعربية إلا أنه كان يتقن السنسكريتية فترجم عنها جملة كتب إلى العربية كذلك كان يتقن الفارسية إتقان أديب بارع من أدباء الفرس وعلماء لغتها القديمة حتى أصبح كتابه التفهيم الذي كتبه باللغتين الفارسية والعربية مرجعا في اللغة الفارسية وأساليب البيان لعلماء الفرس وأدبائهم في العصر الحاضر. ويمتاز البيروني بكتبه العلمية بالاهتمام بالرسوم التخطيطية وهذه الأشكال ليوضح للقارئ ما يريد في كتابه بطريقة عملية تخطيطية وهذه قابلية أخرى فنية والرجل كان عمليا مجربا لا يقتصر على النظريات وقراءة الكتب فإذا مر ببحث مثلا في الطول أو العرض لا يتركك حتى يقول لقد أخذت طول مدينة جرجان مثلا في الوقت الفلاني وما إلى ذلك وهو في هذا واضح جدا في كتابه تحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن فهو إذن لم يقعد في بيته ليسطر لك هذه النظريات العويصة من دون خبرة وتطبيق وقد علمنا أنه ساح في الهند أربعين سنة فكتب كتبه عنهم على رغم ما كان يتشكى منه من طوارئ الحوادث الاجتماعية والحربية التي كانت تمنعه أحيانا من تتمة تجاربه فيعيد الكرة مرة بعد مرة حتى يظفر بغايته.
وقال الأستاذ الدجيلي أيضا:
لعلك تندهش حينما أحدثك بناحية من نواحي أبي الريحان تلك هي الناحية الأدبية فأبو الريحان معروف بعلمه ونضجه الفلسفي وباطلاعه التاريخي وبطبه وصيدلته وبأصطرلابه وهندسته أما ناحيته الأدبية فهي بعيدة عن الباحثين والمترجمين له عدا القليل ممن تنبه لذلك كياقوت والسيوطي في بغية الوعاة. هذان هما اللذان سجلا هذه الناحية الأدبية وسجلا شيئا من شعره. حقا أن أبا الريحان أديب ناضج الأدب لغوي بارع الاطلاع على اللغة وفهم دقائق استعمالها وشاعر وكاتب له في الأسلوب طريقته الأدبية ويظهر أسلوبه الأدبي جيدا في ثلاثة كتب له 1 ما للهند من مقولة 2 الجماهر 3 تحديد نهايات الأماكن فكتابه الأول يظهره أديبا دقيق التعبير كثير الارتباط في جمله الكلامية جيد التنسيق فإذا حدثك فكأنه ابن المقفع في حبك الكلام وتناسق التعبير فلا تستطيع أن تستغني عن كل جملة من جمله وكلامه يتسلسل تسلسل المنطقي في مقدماته ونتائجه حتى تحتاج أن تقرأ ما بين السطور وما يحوم عليها من مفاهيم دقيقة وهو يظهر في أسلوبه بشخصية قوية مهذبة متمركزة ذات أناقة في البيان وهو أديب متجدد من أدباء العصر العباسي يدخل الكلمة الجديدة والتعبير المبتكر ويتساهل في تعابير الأعداد وعنعنة الجاهلية في ذلك فكأنه يومي إليك بأنه جدير بذلك أي أديبا خاصا منفردا كالجاحظ من الأدباء المتجددين ومن الذين لا يريدون أن تحول دونهم ودون ثقافتهم العالية أرستقراطية الألفاظ الجاهلية وتراكيب الشنفري وامرئ القيس. وهو في كتابه الجماهر لغوي واسع الاطلاع على اللغة ومجازاتها وتطورها ومدى بلاغتها وهو أديب بديع الأسلوب ممتنع التناول عليم بطرق الاستشهاد بالقرآن والأمثال العربية ولعلك إذا قرأت الجماهير تتعجب ثم تتساءل أ هذا هو صاحب كتاب التفهيم في أوائل التنجيم وهذا هو صاحب باتنجل والصيدلة والقانون المسعودي.
وقال الدكتور عبد الرحمن زكي:
علامة فذ، أسهم في شتى ألوان المعرفة، فهو رياضي وجغرافي وفلكي، عملاق في كل تلك الميادين، وعبقري بمعنى الكلمة، نجم متألق في سماء الحضارة الاسلامية.
وهو أول عالم في العصور الوسطى 973 1048 تتبع عثرات القدماء بنظر صحيح، فأزالها بالرصد القويم، والمشاهد الصحيحة، وأسس تقويم البلدان على قواعد علمية راسخة. فان التراث الذي وصله ممن سبقوه كان مختلطا بعض الشئ بالشكوك والاختلافات، تحيط بها التخمينات. وأما التراث الذي خلفه هو لمن بعده فقد كان خاليا من الشك والاختلاف والتخمين! وقد استخدم في جميع أبحاثه النظر العقلي الصريح والاستدلال النقي، وتلك هي الميزة الحقيقية التي امتاز بها البيروني في أعماله العلمية.
ونرى البيروني صريحا في مقدمته في القانون التي يقول فيها: ولم أسلك فيه مسلك من تقدمني من الأفاضل، وإنما فعلت ما هو واجب على كل انسان أن يعمله من تقبل اجتهاد من تقدمه بالمنة، وتصحيح خلل أن عثر عليه بلا حشمة، وخاصة فيما يمنع إدراك صميم الحقيقة فيه من مقادير الحركات وتخليد ما يلوح له فيها تذكرة لمن تأخر عنه بالزمان وأتى بعده، فقرنت بكل عمل في كل باب من علله، وذكر ما توليت من عمله.
سافر إلى الهند وتعلم لغاتها، وشاهد وحقق، ثم دون كتابه الكبير تاريخ الهند بعد ما ألف سفره العظيم كتاب الآثار الباقية عن القرون الخالية 1000 م.
ولم يقصر مؤلفاته على هذين الكتابين النادرين، بل أضاف إليهما ثروة علمية أخرى فألف رسالة في علم الفلك عنوانها: القانون المسعودي في الهيئة والنجوم، وله كتاب في الصيدلة، ترجمه في الهند إلى الفارسية أبو بكر بن عثمان الأصفر وكان ذلك عام 1211 م ثم صنف كتابه الجماهير في معرفة الجواهر وأهداه إلى الملك المعظم أبي الفتح مودود المتوفى عام 1048 م.