الرياضيات السبق الذي لم يشق المحضرون غباره ولم يلحق المضمرون المجيدون مضماره وقد جعل الله الأقسام الأربعة له أرضا خاشعة سمك له لواقح مزنها واهتزت به يوانع نبتها فكم مجموع له يرف على روض النجوم ظله ويرفرف على كبد السماء طله وبلغني انه لما صنف القانون المسعودي اجازه السلطان بحمل فيل من نقده الفضي فرده إلى الخزانة بعذر الاستغناء عنه ورفض العادة في الاستغناء به وكان رحمه الله مع الفسحة في التعمير وجلالة الحال في عامة الأمور مكبا على تحصيل العلوم منصبا إلى تصنيف الكتب بفتح أبوابها ويحيط شواكلها وأقرابها ولا يكاد يفارق يده القلم وعينه النظر وقلبه الفكر الا في يومي النيروز والمهرجان من السنة لاعداد ما تمس إليه الحاجة في المعاش من بلغة الطعام وعلقه الرياش ثم هجيراه في سائر الأيام من السنة علم يسفر عن وجهه قناع الاشكال ويحسر عن ذراعيه كمام الاغلاق حدث القاضي كثير بن يعقوب البغدادي النحوي في الستور عن الفقيه أبي الحسن علي بن عيسى الولوالجي قال دخلت على أبي الريحان وهو يجود بنفسه قد حشرج نفسه وضاق به صدره فقال لي في تلك الحال: كيف قلت لي يوما حساب الجدات الفاسدة فقلت له إشفاقا عليه أ في هذه الحال قال لي يا هذا أودع الدنيا وانا عالم بهذه المسالة أ لا يكون خيرا من أن أخليها وانا جاهل بها فأعدت ذلك عليه وحفظ وعلمني ما وعد وخرجت من عنده فسمعت الصراخ عليه وانا في الطريق.
قال وأما نباهة قدره وجلالة خطره عند الملوك فقد بلغني من حظوته لديهم أن شمس المعالي قابوس بن وشمكير أراد أن يستخلصه لصحبته ويحتبسه في داره على أن تكون له الإمرة المطاعة في جميع ما يحويه ملكه ويشتمل عليه ملكه فأبى عليه ولم يطاوعه ولما سمحت مروءته بمثل ذلك للملوك الخوارزمشاهية أسكنه خوارزمشاه في داره وأنزله معه في قصره ودخل خوارزمشاه يوما وهو راكب على ظهر الدابة فامر باستدعائه من الحجرة فأبطأ قليلا فتصور الأمر على غير صورته أي ظن خوارزمشاه أن ابطاءه أنفة من المجئ اليه وثني العنان نحوه ورام النزول فسبقه أبو الريحان إلى البروز وناشده الله أن لا يفعل فتمثل خوارزمشاه:
العلم من أشرف الولايات * يأتيه كل الورى ولا يأتي ثم قال لولا الرسوم الدنياوية لما استدعيتك فالعلم يعلو ولا يعلى وكأنه سمع هذا في أخبار المعتضد فإنه كان يوما يطوف في البستان وهو آخذ بيد ثابت بن قرة الحراني إذ جذبها دفعة وخلاها فقال ثابت ما بدا يا أمير المؤمنين قال كانت يدي فوق يدك والعلم يعلو ولا يعلى. ولما استبقاه السلطان الماضي لخاصة أمره وجوجاء. صدره كان يفاوضه فيما يسنح لخاطره من أمر السماء والنجوم فيحكي أنه ورد عليه رسول من أقصى بلاد الترك وحدث بين يديه بما شاهد فيما وراء البحار نحو القطب الجنوبي من دور الشمس عليه ظاهرة في كل دورها فوق الأرض بحيث يبطل الليل فتسارع على عادته في التشدد في الدين إلى نسبة الرجل إلى الالحاد والقرمطة على براءة أولئك القوم عن هذه الآفات حتى قال أبو نصر بن مشكان أن هذا لا يذكر ذلك عن رأي يرتئيه ولكن عن مشاهدة يحكيه وتلا قوله عز وجل وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا فسال أبا الريحان عنه فاخذ يصف له على وجه الاختصار ويقرره على طريق الاقناع وكان السلطان في بعض الأوقات يحسن الاصغاء ويبذل الانصاف فقبل ذلك وانقطع الحديث بينه وبين السلطان وقتئذ وأما ابنه السلطان مسعود فقد كان فيه إقبال على علم النجوم ومحبة لحقائق العلوم ففاوضه يوما في هذه المسالة وفي سبب اختلاف مقادير الليل والنهار في الأرض وأحب أن يتضح له برهان ما لم يصح له من ذلك بعيان فقال له أبو الريحان أنت المنفرد اليوم بامتلاك الخافقين والمستحق بالحقيقة اسم ملك الأرض فأخلق بهذه المرتبة إيثار الاطلاع على مجاري الأمور وتصاريف أحوال الليل والنهار ومقدارها في عامرها وغامرها وصنف له عند ذلك كتابا في اعتبار مقدار الليل والنهار بطريق تبعد عن مواضعات المنجمين وألقابهم ويقرب تصوره من فهم من لم يرتض بها ولم يعتدها وكان السلطان الشهيد قد مهر بالعربية فسهل وقوفه عليه وأجل إحسانه إليه وكذلك صنف كتابه في لوازم الحركتين بامره آه.
وقال الأستاذ قدري طوقان في نواح مجيدة من الثقافة الاسلامية:
وامتاز البيروني على معاصريه بروحه العلمي وتسامحه وإخلاصه للحقيقة كما امتازت كتابته بطابع خاص فهو دائما يدعم أقواله وآراءه بالبراهين المادية والحجج المنطقية. وكان ملما بعلم المثلثات وتدل كتبه على أنه يعرف قانون تناسب الجيوب وقد عمل هو وبعض معاصريه الجداول الرياضية للجيب والظل. واشتغل أبو الريحان بالفلك وله فيه جولات موفقات فقد أشار إلى دوران الأرض على محورها ووضع طريقة ثابتة جديدة لقياس طول الدرجة وألف كتابا في الفلك يعد أشهر كتاب ظهر في القرن الحادي عشر وهو كتاب التفهيم موضح بالاشكال والرسوم وعمل البيروني تجربة في حساب الوزن النوعي واستعمل جهازا ووجد الوزن النوعي لثمانية عشر عنصرا ومركبا بعضها من الأحجار الكريمة. وكانت حساباته دقيقة لا تختلف عن التي نعرفها الآن وله كتاب في خواص العناصر والجواهر وفي بعض آثاره شرح لصعود مياه الفوارات والعيون إلى الأعلى وكيف تتجمع مياه الآبار بالرشح من الجوانب وكيف تفور العيون وكيف يمكن أن تصعد مياهها إلى القلاع ورؤوس المنارات وقد شرح كل هذه المسائل بوضوح تام ودقة متناهية وفي قالب سهل لا تعقيد فيه وهو أول من استنبط علم تسطيح الكرة ووضع أصول الرسم على سطح الكرة وقال طرقان في تراث العرب العلمي: كان يحسن السريانية والسنسكريتية والفارسية والعبرية عدا العربية وكان أثناء إقامته في الهند يعلم الفلسفة اليونانية ويتعلم هو بدوره الفلسفة الهندية وقال الأستاذ عبد الحميد الدجيلي: له فوائد تاريخية في كتبه لا ترى في غيرها ومما أفاد عن الترقيم في الهند: إن صور الحروف وأرقام الحساب تختلف باختلاف المحلات وإن العرب أخذوا أحسن ما عند الهنود فلقد كان لدى الهنود أشكال عديدة للأرقام فهذب العرب بعضها وكونوا من ذلك سلسلتين عرفت إحداهما بالأرقام الهندية وهي التي تستعمل في بلادنا وأكثر الأقطار الاسلامية وعرفت الثانية باسم الأرقام الغبارية وقد انتشر استعمالها في بلاد المغرب والأندلس وعن طريق هذه البلاد دخلت الغبارية إلى أوربا وعرفت عندهم بالأرقام العربية وذكر أبو الريحان المقالتين اللتين حملهما أحد الهنود إلى بغداد في منتصف القرن الثاني للهجرة وكانت إحداهما في الرياضيات والثانية في الفلك وبواسطة الأولى دخلت الأرقام الهندية إلى العربية واتخذت أساسا للعدد. ودرس المستشرق الشهير