الدولة، كما كانت له وجاهة عند ملوك الأطراف لميل كثير من اهل ذلك الزمان إلى التشيع، وبلغ من احترام عضد الدولة له أنه كان يزوره في داره ويعوده إذا مرض.
وعلى الرغم من كل هذه الوجاهة والجلالة فقد اضطرت السلطات الحاكمة قمعا للفتن الطائفية والاضطرابات المذهبية إلى نفيه مرتين إلى خارج بغداد:
أولاها في سنة 393 ه عند ما اختلت الأوضاع ببغداد، حيث بعث بهاء الدولة عميد الجيوش أبا علي بن أستاذ هرمز إلى العراق ليدبر أمره، فوصل إلى بغداد فزينت له، وقمع المفسدين، ومنع السنية والشيعة من إظهار مذاهبهم، ونفى بعد ذلك ابن المعلم فقيه الامامية. فاستقام البلد.
ثانيتها في سنة 398 ه عند ما جرت في عاشر شهر رجب فتنة بين اهل الكرخ والفقهاء بقطيعه الربيع. وكان السبب أن بعض أهل باب البصرة قصد أبا عبد الله محمد بن محمد بن النعمان المعروف بابن المعلم وكان فقيه الشيعة في مسجده بدرب رباح وتعرض به تعرضا امتعض منه أصحابه، فساروا واستنفروا اهل الكرخ... ونشأت من ذلك فتنة عظيمة... وبلغ ذلك الخليفة فاحفظه وأنفذ الخول الذين على بابه لمعاونة اهل السنة، فبلغ الخبر إلى عميد الجيوش فسار ودخل بغداد، فراسل أبا عبد الله ابن المعلم فقيه الشيعة بان يخرج عن البلد ولا يساكنه، ووكل به، فخرج في ليلة الأحد لسبع بقين من رمضان... فسال علي بن مزيد في ابن المعلم، فرد.
وكان للدور العلمي البارز الذي قام به المفيد في عصره أثر كبير في اشتهار اسمه وشيوع ذكره، فحفلت كتب الرجال والتاريخ بالترجمة له والتحدث عن سيرته، وساق لفيف من المؤرخين خلال الترجمة كلمات الاطراء وجمل الثناء بما لا مزيد عليه، وانساق لفيف آخر منهم مع وحي عواطفهم فاندفعت أقلامهم نحو الطعن والشتم والتشهير. ولما كانت كلمات الثناء والطعن على تضادها أصدق طريق لتوضيح الملامح الأساسية لهذا الرجل فإننا نورد نماذج منها لمعرفة تلك الملامح على واقعها الطبيعي الناصع:
ووصف المؤرخون حياته الخاصة وصفاته الشخصية فذكروا في جملة ما ذكروا: انه كان شيخا ربعة نحيفا أسمر. كثير الصدقات، عظيم الخشوع، كثير الصلاة والصوم، حسن اللباس، كثير التقشف والتخشع والاكباب على طلب العلم. ما كان ينام من الليل الا هجعة ثم يقوم يصلي أو يطالع أو يتلو القرآن.
وكان من أغرب ما قيل في هذا الباب ما ذكره ابن تغرى بردى إذ قال: كان ضالا مضلا هو ومن قرأ عليه ومن رفع منزلته، برز المفيد بين اعلام عصره بفن المناظرة. والمناظرة بمعناها الصحيح ليست عملية مغالطة لفظية تتخذ من اللف والدوران طريقا للتغلب على وجهة النظر الأخرى، وإنما تعتمد فيما تعتمد الموضوعية والمنهج والدليل المتفق عليه سبيلا للاقناع ووضوح النتائج.
واشتهر المفيد بذلك بين الناس بمختلف آرائهم وطوائفهم، وذكر ابن الجوزي انه كان لابن المعلم مجلس نظر بداره بدرب رباح يحضره كافة العلماء وزاد ابن كثير الدمشقي في وصف هذا المجلس بقوله: كان مجلسه يحضره خلق كثير من العلماء من سائر الطوائف.
أقوال العلماء في حقه قال النجاشي: شيخنا وأستاذنا رضي الله عنه وفضله أشهر من أن يوصف في الفقه والكلام والرواية والثقة والعلم ثم عدد له نحوا من ثمانية عشر مصنفا في الفقه والأصول والكلام وغيرها وقال إنه لما توفي صلى عليه الشريف المرتضى بميدان الأشنان وضاق على الناس مع كبره ودفن في داره سنين ثم نقل إلى جوار الجواد ع وعاش نحوا من ثلاث وثمانين أو خمس وسبعين سنة. وقال العلامة الحلي: من أجل مشايخ الشيعة ورئيسهم وأستاذهم وكل من تأخر عنه استفاد منه وفضله أشهر من أن يوصف في الفقه والكلام والرواية، أوثق اهل زمانه وأعلمهم، انتهت رئاسة الامامية اليه في وقته وكان حسن الخاطر دقيق الفطنة حاضر الجواب له قريب مائتي مصنف كبار وصغار ودفن عند رجلي الجواد ع إلى جانب قبر شيخه جعفر بن محمد بن قولويه وقال الشيخ: انتهت رياسة الإمامية في وقته إليه في العلم وكان مقدما في صناعة الكلام وكان فقيها متقدما في حسن الخاطر وذكر مصنفاته كالعلامة وقال كان يوم وفاته يوما لم ير أعظم منه من كثرة الناس للصلاة عليه وكثرة البكاء من المخالف له والمؤالف آه. وأثنى عليه ابن كثير الشامي في تاريخه ثناء بليغا عجيبا وقال إنه شيعه يوم وفاته ثمانون ألفا. وقال أبو حيان التوحيدي: وأما ابن المعلم فحسن اللسان والجدل، صبور على الخصم، كثير الحيلة، ضنين السر، جميل العلانية آه وقال الخطيب البغدادي: شيخ الرافضة والمتعلم على مذاهبهم.
وصنف كتبا كثيرة في ضلالاتهم والذب عن اعتقاداتهم ومقالاتهم وكان أحد أئمة الضلال!! آه وقال ابن حجر: كان كثير التقشف والتخشع والاكباب على العلم وبرع في مقالة الامامية حتى كان يقال: له على كل امامي منة آه وقال ابن تغري بردي: فقيه الشيعة وشيخ الرافضة وعالمها ومصنف الكتب في مذهبها آه.
وعن اليافعي في تاريخه مرآة الجنان أنه قال: توفي سنة ثلاث عشر وأربعمائة عالم الشيعة صاحب التصانيف الكثيرة شيخهم المعروف بالمفيد وبابن المعلم البارع في الكلام والفقه والجدل وكان يناظر كل عقيدة بالجلالة والعظمة ومقدما في الدولة البويهية. وقال ابن طي: كان كثير الصدقات عظيم الخشوع كثير الصلاة والصوم حسن اللباس وكان عضد الدولة ربما زار الشيخ المفيد وكان شيخا ربعة نحيفا أسمر. وفي الفهرست لابن النديم قال: ابن المعلم أبو عبد الله في عصرنا انتهت اليه رياسة متكلمي الشيعة مقدم في صناعة الكلام على مذهب أصحابه دقيق الفطنة ماضي الخاطر شاهدته فرأيته بارعا. وقال السيد مهدي بحر العلوم، هو شيخ المشايخ الاجلة ورئيس رؤساء الملة اتفق الجميع على علمه وفضله وفقهه وعدالته وثقته وجلالته. وقال المحدث النوري: هو شيخ المشايخ العظام وحجة الحجج الهداة الكرام محيي الشريعة وماحي البدعة. وقال السيد هبة الشهرستاني: هو نابغة العراق ونادرة الآفاق غرة المصلحين أستاذ المحققين ركن النهضة العلمية في المائة الرابعة الهجرية آية الله في العوالم معلم الأعاظم وابن المعلم اه.