وبهذا القول ينفي آقسرائي قصة ارغامه وسجنه، والذين ادعوا الارغام والسجن استدلوا على ذلك فيما استدلوا عليه بأنه كتب في آخر كتابه شرح الإشارات وهو الذي ألفه خلال اقامته في قلاع الإسماعيليين ما يلي:
رقمت أكثرها في حال صعب لا يمكن أصعب منها حال، ورسمت أغلبها في مدة كدورة بال لا يوجد أكدر منه بال، بل في أزمنة يكون كل جزء منها طرفا لغصة وعذاب أليم وحسرة وندم عظيم وأمكنة توقد كل آن فيها زبانية نار جحيم ويصب من فوقها حميم ما مضى وقت ليست عيني فيه مقطرا ولا بالي مكدرا ولم يجئ حين لم يزد ألمي ولم يضاعف همي وغمي، نعم ما قال الشاعر بالفارسية:
وهنا يستشهد ببيت شعر فارسي ثم يتمم القول:
وما لي في امتداد حياتي زمان ليس مملوء بالحوادث المستلزمة للندامة والحسرة الأبدية، وكان استمرار عيشي أمير جيوشه غموم، وعساكره هموم، اللهم نجني من تزاحم أفواج البلاء، وتراكم أمواج العناء، بحق رسولك المجتبى ووصيه المرتضى ص وفرج عني ما انا فيه بلا إله الا أنت ارحم الراحمين.
ويقول السيد محمد مدرسي الزنجاني في كتابه سركذشت وعقائد فلسفي خواجة نصير الدين الطوسي في رد ذلك: بسبب اختلاف عقيدته عن عقيدتهم اي الإسماعيليين ولأنه كان أحيانا مضطرا لأن يخالف ميوله ورغباته في بعض ما يكتب، بهذا السبب كانت نفسه في عذاب، وهذا ما جعله يكتب ما كتب في آخر كتاب شرح الإشارات.
الغزو المغولي الثاني كان الغزو المغولي الثاني بقيادة هولاكو أشد ضراوة من الغزو الأول، والقلاع الإسماعيلية التي صمدت في وجه جنكيز لم تستطع الصمود في وجه هولاكو، فكان أن أسرع ناصر الدين مستجيبا لدعوة التسليم التي دعاه إليها هولاكو فسلم ثم والى هولاكو زحفه على إيران وارسل إلى ركن الدين خورشاه يطلب اليه التسليم، وأيقن ركن الدين بعدم جدوى الدفاع والعصيان فأرسل اخاه شاهنشاه وجمعا من كبار رجال الدولة إلى هولاكو مظهرا الطاعة والانقياد، ثم عاد فأرسل اخاه الثاني شيرانشاه مع ثلاثمائة جندي فقابلوا هولاكو وعادوا منه برسالة رضى وملاينة، وبقي السفراء يتعاقبون بين هولاكو وركن الدين على هذا المنوال زمنا، وركن الدين يتحفظ في موقفه ولا يجرؤ على ملاقاة هولاكو بنفسه، ثم عاد وارسل اخاه الثالث ايرانشاه مصحوبا بالخاجة نصير الدين الطوسي وجماعة من الوزراء وأعيان الدولة وقادة الجيش فعمد هولاكو إلى استجوابهم فردا فردا دون أن يتشدد في استجوابهم ثم أعادهم وارسل إلى ركن الدين أنه لن يرضيه الا حضوره بنفسه واعلان استسلامه، فاستشار ركن الدين خاصته وأركان دولته فأشاروا بالتسليم ليقينهم بان المقاومة ميؤوس من نتيجتها، فمضى ركن الدين وبصحبته أولاده ونصير الدين الطوسي والوزير مؤيد الدين والطبيبان موفق الدولة ورئيس الدولة ونزلوا من قلعة ألموت مخلفين دارهم التي عمروها مائة وسبعا وسبعين سنة، وكان نزول ركن الدين من القلعة وذهابه إلى هولاكو ايذانا بانتهاء دولة الإسماعيليين في إيران.
اما هولاكو فقد انهى الامر بعد حين بقتل ركن الدين ومن معه واستثنى من ذلك الطوسي والطبيبين موفق الدولة ورئيس الدولة، إذ أنه كان عارفا بمكانة الطوسي العلمية والفكرية، وعارفا كذلك بمكانة الطبيبين، فاحتفظ بالثلاثة وأمر بضمهم إلى معسكره ووجوب ملازمته.
مع هولاكو أصبح الطوسي في قبضة هولاكو ولم يعد يملك لنفسه الخيار في صحبته فعزم منذ الساعة الأولى أن يستغل هذا الموقف لانقاذ ما يمكن انقاذه من التراث الاسلامي المهدد بالزوال، وأن يحول دون اكتمال الكارثة النازلة والبلاء المنصب وقد استطاع بحنكته أن ينفذ خطته بحزم وتضحية واصرار وقد بلغ من احكام امره وترسيخ منهجه أن الدولة التي أقبلت بجيوشها الجرارة لتهدم الاسلام وتقضي على حضارته انتهى امرها بعد حين إلى أن تعتنق هي نفسها الاسلام ويصبح خلفاء جنكيز وهولاكو الملوك المسلمين!...
يقول الدكتور علي أكبر فياض في كتاب محاضراته عن الأدب الفارسي والمدنية الاسلامية:
وكانت النهضة الإسماعيلية في قمة نشاطها في ذلك العصر وكانت لهم مشاركة تامة في دراسة الفلسفة والنهوض بها للاستفادة منها في تقرير أصولهم واثبات دعاويهم، وقد أسسوا لهم في قلعة ألموت في جبال قزوين مكتبة عظيمة بادت على أيدي المغول. وكان يعيش في رعاية الإسماعيليين رجل يعد من أكبر المشتغلين بالعلوم العقلية بعد ابن سينا ألا وهو نصير الدين الطوسي، قدر لهذا الرجل العظيم أن يقوم بانقاذ التراث الاسلامي من أيدي المغول.
إلى أن يقول:
لقد فرض اليه هولاكو امر أوقاف البلاد فقام بضبطها وصرفها على إقامة المدارس والمعاهد العلمية، وجمع العلماء والحكماء وتعاون معهم في إقامة رصد كبير في مراغة بآذربيجان ومكتبة بجانبه يقال إنها كانت تحوي 400 ألف من المجلدات.
ويقول المستشرق روندلسن:
ثم اقترح الطوسي في مراغة على هولاكو: أن القائد المنتصر يجب أن لا يقنع بالتخريب فقط فأدرك المغولي المغزى وخوله بناء مرصد عظيم على تل شمالي مراغة وتم هذا العمل في 12 سنة. وجمع خلال ذلك الزيج الذي أتمه بعد وفاة هولاكو وهو الزيج الإيلخاني، وقد أظهر خطا أربعين دقيقة في موضع الشمس في أول السنة على حساب الأزياج السابقة وجمع مكتبة عظيمة ضم إليها ما نهب من الكتب في بغداد آه.
ويبدو أن هم الطوسي انصرف أول ما انصرف إلى انقاذ حياة أكبر عدد من العلماء، وحفظ أعظم عدد من الكتب، إذ أنه كان من الواضح أن الغزاة القادمين لا يمكن مقاومتهم بالقوة وأن الدولة في بغداد قد بلغت من التفسخ والانحلال والفتن ما لن تستطيع معه أن تقف بوجه هذا السيل