الحاكم بقبضة يده على المنضدة ولكن بدون جدوى والواقع ان أشق ما كان يشق على البريطانيين يومئذ هو ذلك الشعور الحي بالكرامة لدى أبناء العراق الأحرار. ولنا ان نقول إن جملة من الحوادث التي أريقت فيها الدماء نشأت في العراق عن خشونة في اللهجة أو عجرفة استعمارية في اللقاء اعتبرها الجانب العراقي جارحة لكرامته. ماسة بشرفه وهكذا فان الشعور الحي بالكرامة ونزعة الاستعماريين المعروفة في الشموخ والكبرياء ضدان لا يجتمعان وما أكثر الشواهد على ذلك في احداث العراق خلال فترة الاحتلال. ولا حاجة إلى القول بان للشبيبي مواقفه المعروفة في هذا الدور الخطير من أدوار الكفاح بين الشعب العراقي والسلطة المحتلة خصوصا في بعض المراكز المعروفة كالحلة وكربلاء والنجف والديوانية وبغداد فان الروح الوطنية التي بعثت يومئذ كانت قائمة على نشاط عدد من العلماء ورجال الدين والوجوه والزعماء والشباب في المدن والأرياف المذكورة. وكان هو في طليعتهم. هذا ولما اخذت السلطات الإنكليزية المحتلة تماطل وتسوف في تلبية مطالب العراقيين والاعتراف بحقوقهم المشروعة، وقد أعلنوها وطالبوا بها مرارا خصوصا بعد اجراء الاستفتاء الذي تقدم ذكره. ولما كان قادة الثورة العربية في سورية والحجاز يجهلون ما يجري داخل العراق من صراع عنيف بين أحرار البلاد والسلطات الإنكليزية وكان من الضروري اعلام زعماء العرب خارج العراق بحقيقة الحال هناك فكر صاحب الترجمة بان يقوم بهذه المهمة. وفاتح بذلك فريقا من أصدقائه وزملائه العاملين من علماء ورؤساء وغيرهم من الشباب الناهض وأقنعهم بضرورة تنفيذ هذه الفكرة فوافقوا على رأيه.
رحلته الوطنية ومن ثم قام برحلته إلى البلاد العربية منتدبا عن العراقيين لدى الحكومتين العربيتين في مكة المكرمة ودمشق الشام إذ ذاك. وزود بوثائق مذيلة بتواقيع زعماء البلاد وعلمائها وقادة الرأي العام فيها تضمنت انتدابه ليمثل العراق لدى الحكومتين المذكورتين وابلاغهما رغائب العراقيين وايقافهم على الأحوال الجارية في العراق. وقد بارح العراق في أواخر سنة 1919 م إلى مكة المكرمة سالكا طريق البادية من البصرة إلى جبل شمر في الديار النجدية فالمدينة المنورة. ومن المدينة إلى مكة.
في الحجاز واستقبله الملك حسين في قصر الامارة بمكة وخلا به حيث قدم له ما معه من الوثائق. وتحدث اليه واطلعه على حقيقة الأحوال في العراق، وان العراقيين يعانون كثيرا من الضيم والارهاق تحت إدارة الاحتلال.
ويطالبون أشد المطالبة بالحرية والاستقلال وانهم مستعدون لحمل السلاح واعلان الثورة والتضحية في هذا السبيل بنفوسهم ونفائسهم كما وقع ذلك فعلا. وقد طلب الشبيبي إلى الملك حسين ان يبذل جهده في سبيل تحقيق مطالب الشعب العراقي. وتكليف رسله وممثليه في مؤتمر الصلح الذي كان ملتئما في باريس بذلك. وكان فيصل يعاونه شباب اكفاء من السوريين وغيرهم يمثل والده في المؤتمر المذكور، فما كان من الملك حسين الا ان اعلم فيصلا بالوضع الراهن في البلاد العراقية وبان يدافع عن حقوق العراق في مؤتمر الصلح استنادا إلى تلك الوثائق. التي تسلمها من الشبيبي في مكة المكرمة. ثم إن الملك حسين كتب بهذا المعنى رسائل أجاب بها العراقيين من علماء وزعماء وأعلمهم بتسلم الرسائل والوثائق التي حملها الشبيبي ووعدهم وعدا قاطعا في كتبه بأنه مستعد للتضحية بنفسه وعرشه في سبيل استقلال العراق بحدوده المعلومة وقد وفى الحسين بوعده فإنه توفي بعد أن اخرج من مكة وتنازل عن عرشه بسبب صلابته وثباته. وبعد ان أقام الشبيبي مدة لا تقل عن 40 يوما في مكة بارحها إلى المدينة المنورة ومنها استقل القطار وكان بحالة يرثى لها من الخراب بعد الثورة وذلك إلى حدود الشام.
في دمشق وفي دمشق اجتمع بالملك فيصل بعد عودته من لندن وبقادة الحركة العربية من عراقيين وسوريين وفلسطينيين وغيرهم وتأكد لديه منهم وصول تلك الوثائق العراقية، وهكذا مثل العراق في عدة جمعيات ومؤتمرات من أشهرها المؤتمر العراقي الذي التام في الشام سنة 1920 م ونادى اي المؤتمر على رؤوس الأشهاد باستقلال العراق استقلالا تاما على أن تقوم فيه حكومة دستورية.
عوده من الشام هذا وقد آثر العودة من دمشق إلى الوطن فور الاحتلال الفرنسي لدمشق بعد معركة ميسلون، فبارح دمشق في خريف سنة 1920 عائدا إلى العراق بطريق البادية على ظهور الجمال. وقد قطعوا المسافة بين دمشق وبغداد في خمسة وعشرين يوما.
في العراق هذا وفي هذه الفترة الصاخبة من تاريخ البلاد ظهر للجميع ان الإنكليز لم يجدوا بدا من انهاء عهد الاحتلال. والموافقة على قيام دولة مستقلة ذات سيادة وفقا لما تقرر في مؤتمر القاهرة الذي عقد سنة 1921 حيث مثل شرشل وغيره من البريطانيين الحكومة الإنكليزية ومثل العراق كل من ساسون حسقيل جعفر العسكري. وفي صيف السنة المذكورة وصل فيصل وحاشيته على باخرة انكليزية اقلعت بهم من جدة إلى البصرة. ومنها توجهوا على السكة الحديد فمروا في طريقهم بالديوانية والحلة وكربلاء إلى النجف وأرياف الفرات وهي قلب العراق النابض وغرين الأبطال الأشاوس الذين أذاقوا قوى المحتلين في الرارنجية والرميثة والشامية وأبي صخير وغيرهما ما أذاقوه. وضحوا بأرواحهم وجمع ما ملكت أيديهم في سبيل حرية البلاد وكرامتها. وكان لفيصل باعتباره ثائرا عربيا استقبال باهر يعجز التعبير عن وصفه في تلك المدن المجاهدة. وقوبل بمظاهرات ترحيبية كبيرة وخطب ثورية بليغة كما أنه القى عدة خطب في تلك المناسبات، وكان الشبيبي يجتمع بفيصل وصحبه طول مدة اقامته في تلك الجهات وخصوصا في النجف وبغداد بعد وصوله إليها ولا يضن عليهم بالنصح ومواجهتهم بالواقع، ولما نودي بفيصل ملكا على العراق في تلك السنة كان يستدعيه ويستشيره في الأمور المهمة، وقد رشح لأشغال بعض المناصب العليا في أوائل أيام العهد الفيصلي ولكنه كان يعتذر ويفضل الانقطاع للدراسة والتأليف إلى أن كانت سنة 1924 وفيها عهد إلى يسن الهاشمي بتأليف وزارته الأولى فأبرق اليه وهو مقيم في النجف قائلا انه يسره التعاون معه وان يشغل منصب وزارة المعارف في الوزارة الهاشمية.