ثانيها: إن القطع التفصيلي علة تامة لتنجز الحكم، فلا يجوز الترخيص في مخالفته، بخلاف غيره.
وهذا الفرق مبني على كون التنجز من الآثار الذاتية، وهذه دعوى ليست بينه ولا مبينة، بل ليست إلا مصادرة محضة.
ثم إن هذا المجيب يرى القطع الإجمالي من قبيل الاقتضاء للتنجز، ويصرح في مواضع من كلامه بجواز الترخيص في ارتكاب طرفي الشبهة المحصورة، ويرى التفصيل بين المخالفة القطعية وبين المخالفة الاحتمالية بجعل الأولى من قبيل العلة التامة، والثانية من قبيل الاقتضاء، ضعيفا جدا، مع أن العلم - كما يعلم وتعلم - لا يعقل الإجمال فيه، وإنما الإجمال في متعلقه، ولا شك إلا في تعيين الخمر المقطوع بها، وإلا فوجودها بينهما مقطوع به، فكيف جوز العقل للشرع قوله: اشرب الخمر المعلوم وجودها في هذين الإناءين؟ وحظر عليه قوله:
اشرب الخمر المعلومة في إناء واحد؟ وكيف صار التنجز للقطع علة تامة تارة، ومقتضيا تارة [أخرى]؟ فهل هذا إلا تحكم على العقل أو حيف منه في الحكم؟ ومنها: إن مرتبة الحكم الظاهري محفوظة مع الظن والشك لوجود الساتر على الواقع، فيكون بما هو مجهول الحكم حلالا، بخلاف القطع الذي هو الانكشاف التام الذي لا يدع مجالا للإذن، ولا موضوعا لحكم آخر.
أقول: أما عدم بقاء ساتر على الواقع مع القطع فواضح لا ساتر عليه، ولكن لا ينحصر جعل الحكم الظاهري في وجود الساتر، بل ليس الوجه في إمكان أخذ الجهل موضوعا إلا تأخر مرتبة هذا الحكم عن الواقع بسببه، وهذا موجود مع القطع أيضا، فكما أن الشيء بعنوان أنه مجهول الحكم متأخر عنه فكذلك متأخر بعنوان أنه مقطوع الحكم، وهذا واضح على أصل الترتب الذي هو الوجه في الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية، ويأتي بيانه إن شاء الله.