فبجميع ما قررناه يعلم أن القول بتقديم اللغة مطلقا قوي، لقوة دليله وهو الأصل، بل الأصلان بالنسبة إلى اللغة بالمعنى الثاني، ويؤيدهما أمور أخر:
منها: الاعتبار القاضي بأولوية حمل كلام الشارع على العرف الأقرب إلى زمانه من حمله على العرف الأبعد من زمانه، ووجه الأولوية: كون احتمال مخالفة عرف زمان الشارع لعرف أهل اللغة أضعف من احتمال مخالفته للعرف المتأخر كما هو واضح.
ومنها: كون المعاني المودعة في كتب اللغة لغات باقية مستمرة من زمان الشارع إلى زمان أهل اللغة، وأما المهجورة منها فيما بين الزمانين فقليلة جدا، وظاهر إن المظنة مع الكثرة والغلبة.
ومنها: ما اشتهر من أن الغرض الأصلي من تدوين اللغة وجمعها وضبطها هو أن يكون الكتب المؤلفة فيها مرجعا للعلماء في فهم الكتاب والسنة، وحل ما فيهما من الألفاظ الغريبة واللغات المشكلة، كما يعلم من تصريحات القوم وتلويحاتهم، ويشهد به أيضا أسامي كثير من تلك الكتب المناسبة لما ذكر " كمجمع البحرين " و " الغريبين " و " غرائب القرآن " ونحوه.
وقضية ذلك كون المعاني المثبتة فيها هي المعاني المفهومة منها حال صدور الخطاب، فإن الغرض المذكور إنما يتأتى على هذا التقدير.
ومنها: ما قيل من أنه لو كان هذا المعنى مسبوقا بوضع آخر مهجور لوجب تقديمه أيضا لكونه عرفيا بالنظر إلى المعنى الأول.
وقد اعترفتم بأن طريقة الشارع في مخاطباته ومحاوراته هي طريقة العرف دون اللغة، فما أسسه المشهور من الأساس على تقديم العرف لو تم إنما يقضي بتقديم ما في كتب اللغة على العرف لما تقدم، وإن كان بالقياس إليه لغويا.
هذا كله مع ضعف مستند المشهور إذ ليس لهم إلا وجوه:
منها: ما تقدم مع وجه ضعفه.