وأما الثاني: فلأصالة منع العمل بالظن في الأمور المتعلقة بالشرع، المستفادة من القاطع، فإن الأدلة من العقل والكتاب والسنة والإجماع بل الضرورة متطابقة عليه.
ودعاوى الإجماع بل الضرورة في كلام أساطين العلماء متكاثرة فيه، كما ستقف على تقريره وتقريب أدلته مفصلا في محله، ولأجل كون القول بالحجية واردا على خلاف الأصل المقطوع به، واضطر أصحابه إلى الاحتجاج بوجوه كثيرة مرجعها إلى أقسام:
قسم، ما لو تم لقضى بها بحسب العرف.
وقسم، ما لو تم لقضى بها بحسب الشرع من باب الظن الخاص.
وقسم، ما لو تم لقضى لها عرفا من باب الاضطرار إلى العمل به خاصة.
وقسم، ما لو تم لقضى بها شرعا من باب الاضطرار إلى العمل بمطلق الظن في الأحكام.
فمن حججهم: بناء العقلاء كافة من جميع الملل والأديان في جميع الأمصار والأعصار من لدن أبينا آدم إلى يومنا هذا، فإن بنائهم مستقر على العمل بالظنون المتعلقة بأوضاع الألفاظ وتشخيص الظواهر من كل لغة واصطلاح، كما يشهد به اعتمادهم في إثبات اللغات على التبادرات والترديدات بالقرائن، وأخبار الآحاد التي ليست إلا طرقا ظنية.
وهذا الوجه كما ترى لو تم لقضى بالاعتبار بحسب نظر العرف المنتهي إلى الواضع، لكون بناء العقلاء في أمر اللغات مما يكشف عن إذن الواضع ورضاه، غير أنه في الضعف والوهن بمثابة بيت العنكبوت بل أوهن منه، فإنه دعوى غير مسموعة لمكان القطع بكذبها، فإنا لم نعهد عن أحد من العقلاء ولا واحد من آحاد أهل كل لسان إنه معتمد في لغته أو في شيء من ألفاظ لسانه على الظن، على معنى التزامه بالوضع الظني الحقيقي أو المجازي، بإجراء أحكامه العرفية أو الشرعية عليه.