تعالى مع العباد، وهي أنه يأمر الكل بالإيمان وينهاهم عن الكفر، ثم يخلق الإيمان في البعض والكفر في البعض. ولما كانت سنة الله تعالى في هذا المعنى سنة قديمة في حق كل الأنبياء وكل الأمم والملل وإنما يحسن منه تعالى ذلك بحكم كونه إلها منزها عن اعتراضات المعترضين ومطالبات المنازعين، كان إيراد هذا السؤال من هؤلاء الكفار موجبا للجهل والضلال والبعد عن الله فثبت أن الله تعالى إنما حكم على هؤلاء باستحقاق الخزي واللعن، لا لأنهم كذبوا في قولهم: * (لو شاء الله ما عبدنا من دونه شئ) * بل لأنهم اعتقدوا أن كون الأمر كذلك يمنع من جواز بعثة الأنبياء والرسل وهذا باطل، فلا جرم استحقوا على هذا الاعتقاد مزيد الذم واللعن. فهذا هو الجواب الصحيح الذي يعول عليه في هذا الباب. وأما من تقدمنا من المتكلمين والمفسرين فقد ذكروا فيه وجها آخر فقالوا: إن المشركين ذكروا هذا الكلام على جهة الاستهزاء كما قال قوم شعيب عليه السلام له: * (إنك لأنت الحليم الرشيد) * (هود: 87) ولو قالوا ذلك معتقدين لكانوا مؤمنين. والله أعلم.
المسألة الثانية: اعلم أنه تعالى لما حكى هذه الشبهة قال: * (كذلك فعل الذين من قبلهم) * أي هؤلاء الكفار الذين كانوا متمسكين بهذه الشبهة.
ثم قال: * (فهل على الرسل إلا البلاغ المبين) * أما المعتزلة فقالوا: معناه أن الله تعالى ما منع أحدا من الإيمان وما أوقعه في الكفر، والرسل ليس عليهم إلا التبليغ، فلما بلغوا التكاليف وثبت أنه تعالى ما منع أحدا عن الحق كانت هذه الشبهة ساقطة. أما أصحابنا فقالوا: معناه أنه تعالى أمر الرسل بالتبليغ. فهذا التبليغ واجب عليهم، فأما أن الإيمان هل يحصل أم لا يحصل فذلك لا تعلق للرسول به، ولكنه تعالى يهدي من يشاء بإحسانه ويضل من يشاء بخذلانه.
المسألة الثالثة: احتج أصحابنا في بيان أن الهدي والضلال من الله بقوله: * (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن أعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) * وهذا يدل على أنه تعالى كان أبدا في جميع الملل والأمم آمرا بالإيمان وناهيا عن الكفر.
ثم قال: * (فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة) * يعني: فمنهم من هداه الله إلى الإيمان والصدق والحق، ومنهم من أضله عن الحق وأعماه عن الصدق وأوقعه في الكفر والضلال، وهذا يدل على أن أمر الله تعالى لا يوافق إرادته، بل قد يأمر بالشيء ولا يريده وينهى عن الشيء ويريده كما هو مذهبنا. والحاصل أن المعتزلة يقولون: الأمر والإرادة متطابقان أما العلم والإرادة فقد يختلفان، ولفظ هذه الآية صريح في قولنا وهو أن الأمر بالإيمان عام في حق الكل أما إرادة الإيمان فخاصة بالبعض دون البعض.