فان قالوا: إنه ظن بهذا الضلال أنه هدى؟ فلا جرم قد أوقعه وأدخله في الوجود فنقول:
فعلى هذا يكون إقدامه على تحصيل هذا الجهل بسبب الجهل السابق، فلو كان حصول ذلك الجهل السابق بسبب جهل آخر لزم التسلسل وهو محال، فثبت أن هذه الجهالات والضلالات لابد من انتهائها إلى جهل أول وضلال أول، وذلك لا يمكن أن يكون باحداث العبد وتكوينه لأنه كرهه وإنما أراد ضده، فوجب أن يكون من الله تعالى. الثاني: أنه تعالى لما خلق الخلق بحيث يحبون المال والجاه حبا شديدا لا يمكنه إذالة هذا الحب عن نفسه البتة، وكان حصول هذا الحب يوجب الاعراض عمن يستخدمه ويوجب التكبر عليه وترك الالتفات إلى قوله وذلك يوجب الكفر، فهذه الأشياء بعضها يتأدى إلى البعض تأديا على سبيل اللزوم وجب أن يكون فاعل هذا الكفر هو الذي خلق الانسان مجبولا على حب المال والجاء. الثالث: وهو الحجة الكبرى أن القدرة بالنسبة إلى الضدين على السوية. فلا يترجح أحد الطرفين على الثاني الا لمرجح، وذلك المرجح ليس من العبد والا لعاد الكلام فيه، فلا بد وأن يكون من الله تعالى، وإذا كان كذلك كانت الهداية والاضلال من الله تعالى. الرابع: أنه تعالى أعطي فرعون وقومه زينة وأموالا وقوى حب ذلك المال والجاه في قلوبهم. وأودع في طباعهم نفرة شديدة عن خدمة موسى عليه السلام والانقياد له، لا سيما وكان فرعون كالمنعم في حقه المربي له والنقرة عن خدمة من هذا شأنه واسعة في القلوب، وكل ذلك يوجب اعراضهم عن قبول دعوة موسى عليه السلام وإصرارهم على انكار صدقة، فثبت بالدليل العقلي أن إعطاء الله تعالى فرعون وقومه زينة الدنيا وأموال الدنيا لابد وأن يكون موجبا لضلالهم فثبت أن ما أشعر به ظاهر اللفظ فقد ثبت صحته بالعقل الصريح فكيف يمكن ترك ظاهر اللفظ في مثل هذا المقام وكيف يحسن حمل الكلام على الوجوه المتكلفة الضعيفة جدا.
إذا عرفت هذا فنقول:
(أما الوجه الأول) وهو حمل اللام على لام العاقبة فضعيف، لان موسى عليه السلام ما كان عالما بالعواقب.
فان قالوا: إن الله تعالى أخبره بذلك؟
قلنا: فلما أخبر الله عنهم أنهم لا يؤمنون كان صدور الايمان منهم محالا، لان ذلك يستلزم انقلاب خبر الله كذبا وهو محال والمفضي إلى المحال محال.
(وأما الوجه الثاني) وهو قولهم يحمل قوله (ليضلوا عن سبيلك) على أن المراد لئلا يضلوا عن سبيلك فنقول: إن هذا التأويل ذكره أبو على الجبائي في تفسيره. وأقول: إنه لما شرع في تفسيره